وجّهت الاحتجاجات الشعبية على مقررات قانون المالية 2017، رسائل سرعان ما تلقفتها الحكومة وردت عليها، على لسان وزير الداخلية والجماعات المحلية، نور الدين بدوي، مبدية نوعا من الحزم في التعاطي مع كل من يسعى لتعكير صفو استقرار البلاد لرفع انشغالاته. هذا الرد يخفي توجها مفاده أن الجهاز التنفيذي لم يعد يتوفر على الكثير من الحلول لمواجهة الشارع مثل ما كان الأمر في حالات سابقة، عندما تم اللجوء إلى أموال الريع النفطي وفق ما اصطلح عليه "شراء السلم الاجتماعي".. اليوم بات هذا الحل بعيد المنال في ظل الظروف المالية الصعبة التي تعيشها البلاد جراء معطيات السوق النفطية. وأمام هذا الوضع تلوح الحكومة باستعمال العصا لمواجهة الشارع. فهل استنفدت الحكومة كل الحلول البديلة؟ وهل حماية استقرار البلاد يمر بالضرورة في ظل المعطيات الراهنة عبر فرض القانون بالقوة؟ وهل لانتهاج مثل هذا الحل مخاطر على الانسجام الاجتماعي؟ هذه الأسئلة وأخرى سيحاول "الملف السياسي" لهذا العدد الإجابة عليها. السلطة في مواجهة الشارع ماذا بقي للحكومة من حلول؟ عادت مجددا الاحتجاجات الشعبية لتجتاح الشارع في بعض مناطق البلاد، والسبب هو ذاته الذي أخرج الجزائريين في بداية 2011 فيما عرف بأحداث الزيت والسكر، وإن اختلفت المقارنة في بعض الجزئيات.. فقد استفاق الجزائريون مطلع العام الجديد على وقع فوضى مفاجئة في بعض مدن ولايات بجاية والبويرة وبومرداس، وامتدت الاحتجاجات حتى إلى بعض الشوارع في العاصمة، في مشهد أعاد الأذهان إلى أوقات سابقة لا يتمنى الجزائريون حتى تذكّرها. ظاهر هذه الاحتجاجات تبدو اجتماعية محضة، بسبب الإجراءات التقشفية التي حملها قانون المالية لسنة 2017، والتي جاءت بأعباء جديدة أرهقت كاهل الفئات الهشة، وامتدت حتى إلى الطبقة الوسطى، التي كانت إلى وقت قريب في منآى عن مثل هذه التداعيات، غير أن التوظيف غير البريء لهذه الأحداث قد يحصل إذا لم يتم التعامل معها بحكمة بالغة. ما أقدمت عليه الحكومة في قانون المالية 2017 يبدو مبررا من الناحية الواقعية، فموارد البلاد المالية انخفضت إلى النصف، ولم يعد ما تكتنزه خزائن الحكومة من أموال كافيا لمواجهة التحديات المتنامية، والأخطر من ذلك هو أن الحكومة لم تعد قادرة على إقناع الجزائريين بضرورة التكيف مع معطيات الواقع الصعب.. فكيف السبيل للخروج من هذا المأزق؟ عندما اشتعل الشارع في جانفي 2011، كانت خزينة الدولة مملوءة بدولارات النفط الذي كانت أسعاره فوق عتبة ال100 دولار للبرميل، أما اليوم ف"شراء السلم الاجتماعي" بات غير ممكن، لأن الأسعار انخفضت إلى ما دون النصف، ومن ثم فما على الحكومة سوى البحث عن حلول أخرى لتجنيب البلاد ما لا يتمنى الجميع حدوثه. ولعل ما يزيد من حدة المخاوف، هو التربص غير المسبوق لبعض القوى الغربية الطامعة، فالتقارير المشبوهة والموجّهة، لم تتوقف عن وضع الجزائر في دائرة المنطقة الحمراء، بل إن بعضها ذهب إلى وضعها هدفا مواليا بعد سوريا.. لقد كبرت الجزائر في أعين المتربصين، وقد زاد هذا التربص منذ أن تحولت إلى الدولة الأكبر في إفريقيا من حيث المساحة، منذ انقسام السودان إلى دولتين، كما أن ثرواتها الغنية والمتعددة، التي تفتقر إليها أية دولة في العالم، يجعلها محط أطماع متربصين جدد. ولا شك أن فشل المحاولة الأولى (أحداث السكر والزيت في جانفي 2011) في إلحاق الجزائر بدول ما عرف ب"الربيع العربي"، التي تعيش اليوم وضعا مأساويا، يكون قد أحبط آمال الكثير من المتربصين بأمن واستقرار البلاد، ومنهم "عراب" الصهيونية العالمية حاليا، بيرنار هونري ليفي، غير أن ذلك سوف لن يثبّط عزائمهم في استغلال أي فرصة تلوح في الأفق. ومن هنا يبرز ثقل المسؤولية الملقاة على عاتق الطرفين، الحكومة من جهة، والشارع من جهة أخرى.. ولأن الشارع وبحكم طبيعة مكوناته، لا يتمتع عادة بالوعي الذي يمكنه من تغليب المصلحة العليا للبلاد، فإن مسؤولية الحكومة تبدو أكبر، في تجنيب البلاد أخطارا تبدو في غنى عنها، وعيا منها بحجم المناورات والمؤامرات التي تحاك ضد استقرار البلاد ووحدتها. فالحكومة تبدو هذه المرة أكثر صرامة في مواجهة الشارع، ففي العاصمة وفي بعض المدن التي شهدت احتجاجات، قامت الشرطة بضربات استبقاقية وعمدت إلى إيقاف بعض الوجوه المعروفة لديها، والتي يمكن أن تكون قائدة لأي احتجاج، إلا أن المقدمات قد لا تؤدي دوما إلى النتائج المرجوة. فالدولة مدعوة لإحكام القانون وفرض هيبتها وإن تطلب الأمر اللجوء إلى القوة، إلا أن هذا الإجراء يجب أن ترافقه إجراءات تهدئة أخرى لامتصاص غضب الجزائر من تداعيات قانون المالية الجديد، التي شكلت صدمة وإن كانت منتظرة، خاصة وأنها جاءت بعد سنوات من "البحبوحة" التي عاشها الجزائريون. المحامي والناشط الحقوقي بوجمعة غشير الحكومة غير قادرة على شراء السلم الاجتماعي وعليها إيجاد حلول بديلة بماذا تعلقون على الاحتجاجات وغضب الشارع الذي ميز مطلع السنة الجديدة؟ الاحتجاجات التي ظهرت في بعض المدن مع مطلع السنة الجديدة كانت متوقعة نظرا للاحتقان السياسي والاجتماعي الذي ساد المجتمع الجزائري مؤخرا. وما يجب الإشارة إليه هنا، هو أن هذه الاحتجاجات وهذا الغضب سببه غلق المجال السياسي وضعف الأحزاب السياسية، فقد جرت (الاحتجاجات) في غياب في أي تأطير كان، لأنه من المفروض أن تكون الاحتجاجات والمظاهرات الاجتماعية مؤطرة إما من طرف أحزاب سياسية أو جمعيات المجتمع المدني، وهو ما لم يحدث. إذن فظهور هذا الغضب وهذه الاحتجاجات من دون تأطير يجعلها مفتوحة على جميع الاحتمالات، ولذلك رأينا بعض الانحرافات قد حدثت في بعض المدن. هناك من يرى أن الاحتجاجات عفوية، وهناك من يقول إنها جاءت بإيعاز وأن أطرافا ما تحركها، ما رأيكم؟ إن هذه الاحتجاجات التي تتحدث عنها يمكن أن تكون عفوية، لكن.. في ظل غياب التأطير المطلوب من قبل الأحزاب وجمعيات المجتمع المدني للمجتمع، هذا الأمر يفتح المجال لأطراف أخرى قد تكون مغرضة من اجل استغلال هذه الحركات الاجتماعية لتحقيق أهداف خاصة أو خارجة عن الأهداف التي رسمت لها، على غرار تحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي وغلاء المعيشة والقدرة الشرائية وغيرها. برأيكم ما هي الحلول المتوفرة اليوم في يد الحكومة لمواجهة هذا الوضع؟ إن أمام الحكومة نوعين من الحلول الممكنة. الحل الأول يتمثل في مواجهة الحكومة لغلاء المعيشة وتدهور القدرة الشرائية للجزائريين عن طريق تأطير فعال وصارم للسوق، من خلال فرض الرقابة والحضور المستمر للأعوان وضمان الرقابة على كافة حلقات السوق. أما الحل الثاني ومن أجل ضمان عدم تكرار مثل هذه الأحداث غير المؤطرة وما ينتج عنها، يجب أن يتم فتح المجال السياسي والعمل على تمكين الأحزاب السياسية والجمعيات من الاحتجاج والتظاهر والتعبير عن انشغالاتها وانشغالات المواطنين بالطرق السلمية. لكن وجبت الإشارة هنا إلى أن الأحزاب والجمعيات والجهات التي تؤطر المجتمع والحركات الاحتجاجية، يجب أن تتحمل المسؤولية كاملة من خلال أهداف ورسائل واضحة ومحددة للاحتجاج السلمي. هل تعتقدون أن الحكومة قادرة على مواصلة سياسة شراء السلم الاجتماعي في ظل الوضع الاقتصادي والمالي الراهن للبلاد؟ الكل يتذكر احتجاجات جانفي 2011 وكيف تعاملت السلطة مع ما يعرف في وسائل الإعلام باحتجاجات السكر والزيت، وكيف واجهت السلطة تلك الحركات بشراء السلم الاجتماعي عن طريق تقديم مزايا مادية وتسهيلات مالية لإسكات الغاضبين، وحينها السلطة حاولت إعطاء الانطباع بأن الاحتجاج سببه السكر والزيت وفقط. لكن حاليا وبالنظر للظروف المالية والاقتصادية الراهنة، فالحكومة عاجزة عن فعل ذلك، أي شراء السلم الاجتماعي ماليا بواسطة المال العام القادم من الخزينة العمومية. ولذلك فالحكومة مطالبة بإيجاد الميكانيزمات والحلول الأساسية لتأطير المجتمع وحماية أفراده من المضاربة والعمل على توفير اكبر قدر ممكن من الحقوق الاجتماعية للجزائريين. بنظركم هل ستتراجع الحكومة تحت ضغط الشارع عن مقررات قانون المالية أو على الأقل بعض تدابيره؟ أرى أنه من الصعب جدا أن تتراجع الحكومة عن قانون المالية، لأن الأمر يتعلق بقانون تمت مناقشته والمصادقة عليه على مستوى غرفتي البرلمان، وهي مطالبة باحترامه وضمان تسييره خلال العام 2017. ولذلك أقول وأؤكد انه من الصعب أن تتراجع، لكن الحكومة بإمكانها أن تجد متنفسا ومخارج أخرى عن طريق التضامن الاجتماعي والتكفل بالفئات الهشة اجتماعيا وفرض الرقابة الفعالة على السوق وغيرها. القيادي والناطق الرسمي باسم التجمع الوطني الديمقراطي "الحكومة لا تمتلك عصا سحرية.. ومتطرفون وراء تأجيج الشارع" شهدت بداية السنة احتجاجات شعبية لأسباب متعددة جمعها التذمر من الوضع الاجتماعي.. ماذا تقولون؟ الاحتجاجات الاجتماعية كانت منتظرة ومتوقعة قبل بداية العام الجديد ودخول قانون المالية حيز التنفيذ، فالكثير من الأحزاب سبق وأن توعدت بجعل سنة 2017 سنة حراك اجتماعي، وارتكزت هذه الأخيرة في انتقادها للوضع على نقص الموارد وشح الإمكانيات مقارنة مع السنوات الماضية، بفعل الأزمة النفطية، وعلى كل، توقعنا مسبقا بأن يكون لهذه الأزمة تداعيات اقتصادية واجتماعية، لكن فرض الإجراءات التي تضمنها قانون المالية كان إلزاميا في ظل الوضع الراهن، والذين ينادون للاحتجاج والخروج للشارع اليوم، استغلوا هذا القانون كذريعة للدعوة للخروج وفقط، وعلى العموم فزيادة بعض الرسوم جاء في ظل سعي الحكومة لتقليص العجز المترتب عن انخفاض عائدات النفط. برأيك هل هذه التحركات عفوية أم تحركها أجندات؟ من المعروف والمتداول أن العمل السياسي حينما يكون من هذا النوع، إما يخضع دائما لأجندات واملاءات تابعة لجهة معينة أي أنه مخطط له مسبقا أو يخضع لاستغلال بعدي، وتحتويه بعض الجماعات المتطرفة وتعمل على تغذيته ومحاولة إكسابه طابعا يتناسب وتحركاتها، نحن لا نتهم المعارضة المنظمة، خاصة تلك الناشطة تحت قبة البرلمان، فهذه الأخيرة استوعبت ضرورة احتواء الوضع واقتنعت بأن الديمقراطية الهادفة لن تكون إلا بتحقيق الهدوء، خاصة وأننا اليوم على أبواب انتخابات تشريعية قد تساهم في بعث أمل ديمقراطي جديد وتقوية الجبهة الداخلية، إلا أننا نتهم في هذا الإطار جماعات متطرفة تعمل على خلق الفوضى ببعض الولايات تتقدمها بجاية، فهؤلاء المتطرفون يريدون اليوم خروج الجزائريين إلى الشارع لتحقيق أهدافهم، وهذا ما يجب أن يستوعبه الجميع. دأبت الحكومة على امتصاص غضب الجزائريين فيما سبق بشراء السلم الاجتماعي، هل هي اليوم قادرة على ذلك في ظل الوضع الاقتصادي والمالي المعقد؟ مصطلح شراء السلم الاجتماعي حق أريد به باطل، وتسعى بعض الأطراف لاستغلاله لتحقيق أغراض خبيثة، فالحكومة قامت بما يجب عليها لاحتواء الوضع وتخفيف الأزمة، ويخطئ من يعتقد أن قانون المالية لسنة 2017 لم يتضمن إجراءات لتحقيق السلم الاجتماعي والدليل على ذلك حفاظها على المكتسبات الاجتماعية الخاصة بالدعم وغيرها، فمن واجب الدولة اليوم تحقيق السلم الاجتماعي، بل أكثر من ذلك، هذا يندرج في إطار ثوابتها ومقوماتها، واليوم السلطات قامت بما عليها ولكن كل الإجراءات المتخذة لم تخرج عن الوفرة المالية الموجودة، فالأزمة تتطلب إجراءات بالجملة لتحقيق موازنة مالية مقبولة وتحافظ على الطبقات الهشة، وهذا يندرج في إطار القرارات المتخذة سنة 2017 لضمان السلم الاجتماعي، إلى غاية إيجاد ميكانيزمات أخرى. ماذا بقي للحكومة من حلول لتجاوز هذا الوضع؟ هنالك الكثير من الحلول التي لاتزال في جعبة الحكومة، يجب أولا اعتماد خطاب سياسي واقعي من جهة، ومطمئن من جهة أخرى، كما يجب تحسيس المواطن بحقيقة الوضع وتجنيده لتجاوز صعوبة المرحلة وإقناعه بالرهانات الداخلية التي تمر بها البلاد والمخاوف الأمنية التي تطبع الدول المحيطة بالجزائر وتموقعها في منطقة غير مطمئنة، كما يجب على الحكومة أن تنتهج آليات أكثر صرامة وجدية في تسيير المرفق العام، فترشيد النفقات أكثر من ضروري ومحاربة التبذير بمختلف أشكاله أيضا، ونحن في التجمع الوطني الديمقراطي طالبنا بفرض ضريبة الثروة، فهنالك أثرياء لم ترتفع نسبة الضرائب المفروضة عليهم منذ أزيد من 14 سنة، وهناك بعض الدول التي رفعت هذه الضريبة بنسبة 70 بالمائة، فلماذا لا يتخذ قرار على هذا المستوى في الجزائر. أيضا لا يجب أن ننسى ضرورة تحديث وعصرنة منظومتي الضرائب والجمارك، والبحث عن مداخيل أخرى خارج المحروقات وتوسيع الجباية العادية، لضمان مصاريف السياسة الاجتماعية، لا يوجد في يد الحكومة العصا السحرية لتحقيق حلول نهائية، ولكن يجب على الأقل تطبيق القانون، والبحث دائما عن حلول لتنويع الاقتصاد.