غياب النواب عن الجلسات، مشهد تكرر ولا يزال، رغم وجود نصوص دستورية مستحدثة تؤكد على اتخاذ إجراءات عقابية لمعالجة الظاهرة. اللافت في الأمر، أن التعامل مع الظاهرة مختلف بين غرفتي البرلمان، بالرغم من أن النظام الداخلي يسري على الغرفتين. فالغرفة العليا شرعت في تطبيق الإجراءات العقابية على المتغيبين، كما جاء على لسان رئيسها، عبد القادر بن صالح، أما الغرفة السفلى، فلا تزال لم تشرع بعد في التطبيق. فلماذا ومن يتحمل مسؤولية ذلك؟ وعندما يعرقل تطبيق إجراء ما، فهذا يعني أن هناك أطرافا لها مصلحة في ذلك؟ فمن هو الطرف المستفيد يا ترى من تغيب النواب؟ ومن هؤلاء النواب المتغيبون وما هي انتماءاتهم السياسية؟ ومتى يأتي اليوم الذي يفعل فيه القانون على مستوى الغرفة السفلى؟ هذه الأسئلة وأخرى سيحاول "الملف السياسي" لهذا العدد الإجابة عنها.
الإجراء لم يُفعّل رغم مضي أكثر من سنة على دسترته من يعرقل محاسبة النواب على غيابهم عن الجلسات؟ مثلما جرت العادة، حافظ النواب على تقاليدهم المعهودة في ترك مقاعدهم شاغرة عند مناقشة مشاريع القوانين والمصادقة عليها، والمؤسف أن يتكرس هذا المشهد للمرة "نون"، ولاسيما عند مناقشة أهم المشاريع القانونية على الإطلاق، وهو مشروع قانون المالية. وليست هي المرة الأولى التي يتغيب فيها النواب عن الجلسات، غير أن الظرف هذه المرة يختلف، لأن الدستور المعدل مطلع السنة الفارطة، تحدث عن إجراءات عقابية بحق نواب الشعب، أو أعضاء الغرفة السفلى المتغيبين، ومع ذلك لم يتغير شيء في واقع الأمر. وتنص المادة 116 من الدستور على: "يتفرغ النائب أو عضو مجلس الأمة كليا لممارسة عهدته. ينص النظامان الداخليان للمجلس الشعبي الوطني ومجلس الأمة على أحكام تتعلق بوجوب المشاركة الفعلية لأعضائهما في أشغال اللجان وفي الجلسات العامة، تحت طائلة العقوبات المطبقة في حالة الغياب". النص الدستوري السالف ذكره واضح، وهو يتحدث عن إجراءات عقابية ضد النواب أو "السيناتورات" المتغيّبين عن الجلسات، غير أن تجسيد هذا النص يتطلب استصدار نصوص أخرى، على مستوى غرفتي البرلمان (النظام الداخلي)، وهو الأمر الذي لم يجهز لحد الآن، لأن القانون المتعلق بهذه الحالة، لا يزال لم يصدر بعد في الجريدة الرسمية، حسب مصادر نيابية. والسؤال هنا، هو لماذا لم يتم استصدار النصوص التطبيقية، بالرغم من أن عمر دخول الدستور الجديد حيز التطبيق أصبح يقارب السنتين.. والواقع أن الإجراء قطع أشواطا على مستوى الغرفة العليا، بل بدأ العمل به، غير أن الإجراء لم يكن في المستوى ذاته من التقدم على مستوى المجلس الشعبي الوطني، بالرغم من محورية هذه الغرفة في مسار التشريع. وقبل أيام من الشروع في مناقشة مشروع قانون المالية 2018، اتخذت إدارة المجلس قرارا يقضي بعدم بث مناقشات النواب على الشاشات الموزعة في أروقة المجلس، والتي اعتاد رجال الإعلام الاستئناس بها.. قرار لم يسبق أن تم العمل به، فلماذا يا ترى؟ لم تقدّم إدارة المجلس تبريرا موثقا لذلك، لكن مصادر نيابية وكذا بعض المتابعين لشؤون الغرفة السفلى، لم يترددوا في قراءة القرار على أنه موقف سياسي أملته الظروف التي يطبعها التحضير للانتخابات المحلية المرتقبة نهاية الأسبوع المقبل. وكما جرت العادة، فمداخلات بعض النواب في مناسبات من هذا القبيل، عادة ما تكون نارية، إما لأسباب موضوعية أو لأغراض انتخابية أو حزبية أو جهوية.. ولذلك ربط البعض بين قرار المجلس والخوف من نشر غسيل إخفاقات الحكومة في الاهتمام بالشأن العام، لاسيما وأن الظرف ينطوي على حساسية كبيرة، بسبب ما ترتب عن تراجع أسعار النفط من أزمة مالية، وتداعياتها على القدرة الشرائية للمواطن. المفروض في مثل هذه الحالات هو أن تبادر كل المجموعات البرلمانية إلى التبرؤ من تغيب عناصرها عن الجلسات إذا كان الأمر لا يتعلق بنوابها، غير أن صمت الجميع يضعهم في كفة واحدة. كما أن القرار الذي اتخذته إدارة المجلس بوقف البث المباشر لأشغال الجلسات، يدفع إلى التشكيك في إجراء من هذا القبيل، لأن هذا المعطى يدفع إلى الاعتقاد بأن هناك من له مصلحة في تغيب النواب عن الجلسات، ولعل ما يزيد من صدقية هذا الطرح، هو شروع الغرفة العليا للبرلمان في تنفيذ الإجراءات العقابية ضد أعضائها المتغيبين، فيما لا يزال العمل بهذا الإجراء مغيبا على مستوى الغرفة السفلى، بالرغم من أن القانون المطبق (النظام الداخلي) على إحدى الغرفتين يسري تلقائيا على الغرفة الأخرى.
الخبير الدّستوري والأستاذ الجامعي عامر رخيلة ل "الشروق": النائب في المنظومة الراهنة يدين للحزب الذي رشحه وليس للشعب ظاهرة عزوف النواب عن مهامهم النيابية، أصبحت ظاهرة، والمؤسف أن الأمر حصل حتى عند مناقشة مشروع قانون المالية لسنة 2018.. ما تعليقكم؟ القضية أصبحت ظاهرة بالفعل، فقد أصبحنا نشاهد مقاعد فارغة أثناء مناقشة مختلف مشاريع القوانين، ولكن إذا كان فيه قانون يستحق الحضور المكثف والجدية وتقديم الاقتراحات والحلول العملية، فبالتأكيد هو قانون الماليّة، لأنه مرتبط بجميع مشاريع القوانين المعروضة من طرف الحكومة، ولابد من إجراءات تأديبية ضد النواب المتغيبين، حتى لا تكون قاعة البرلمان شبه فارغة، وذلك عن طريق استغلال نص في النظام الداخلي لمعالجة الظاهرة. ولكن الشيء المؤسف في المجلس الشعبي الوطني، أن وثيقة مهمة وأساسية، متمثلة في مناقشة النظام الداخلي والمصادقة عليه، لم تحظ بالأولوية، رغم كونها متعلقة بكيفية تسيير وإدارة الجلسات، وكيفية تنظيم عمل النواب. فالإجراء التأديبي ضد النائب المتغيب لابد من الاتفاق عليه، لأن من شروط النيابة "التفرغ النيابي"، إذ لا يصح أن يتفرغ النائب المحامي لقضيته، ومسير الشركة لأعماله على حساب العمل النيابي.
هذه القضية كانت محل جدل وقد أدرجت تدابير تشريعية لمواجهة هذه الظاهرة.. لكنها لم تزل غير مطبقة، فمن يتحمل المسؤولية؟ في المقام الأول، جاءت مناقشة مشروع قانون المالية 2018 مع اشتداد الحملة والتنافس الانتخابي، فكثير من النواب نزلوا إلى قواعدهم أو ولاياتهم الأصلية، لبعث خطاب أحزابهم، ولترجيح كفة قائمة على قائمة أخرى. وعدم تطبيق التدابير التشريعية لمعاقبة النواب المتغيبين، راجع إلى كون المصادقة على الدستور كانت في مارس 2016، وإلى غاية ماي 2017 لا النواب ولا السلطة التنفيذية، سعوا إلى إعادة النظر، أو بالأحرى تقاعسوا ولم يدخلوا تعديلا على النظام الداخلي، ولو من باب الاستعجال، إذ كان عليهم تعديل مادة أو مادتين كمرحلة أولى.
يعتبر مشروع قانون المالية أهم المشاريع التي يفترض أن يستميت فيها النائب في الدفاع عمن صوت عليه، فماذا يعني تغيب النائب عن موعد من هذا القبيل، من الناحية السياسية والقانونية؟ النائب لما ينتخب، فإنه يدين بالولاء في المقام الأول للحزب الذي رتبه في القائمة، وليس للناخب الذي انتخبه، فنظام القائمة المعمول به في الانتخابات، يجعل النائب يشعر بفضل حزبه في انتخابه وليس الشعب، أو حتى يشعر بالامتنان للولاءات و"الشكارة" التي رفعته. أما من الناحية القانونية، فلا يترتب أي شيء على النائب المتغيب، أما سياسيا وأخلاقيا، فمن واجب النائب تأدية الدور المنوط به، خاصة أن مشروع قانون المالية لا يعني الطبقة الوسطى فقط، بل جميع فئات المجتمع حتى رجال المال والأعمال، لأن مشروع القانون هذا له علاقة بزيادة الضريبة، ووجوب الحصول على الاستثمار.
تتحدث المادة 116 من الدستور عن عقوبات على النواب المتغيبين.. هل تمت معاقبة نواب بخصوص هذه القضية؟ وإذا كان الجواب "لا" فلماذا؟ المادة 116 لابد أن تنقل إلى نص قانوني، وإلا لن تطبق، وكما أسلفت الذكر، بعد المصادقة على الدستور في مارس 2016، لم يتم بعد 14 شهرا إعادة تكييف النظام الداخلي للمجلس الشعبي الوطني، وبالتالي لا يمكن لرئيس المجلس الشعبي الوطني معاقبة المتغيبين، إلا بتكييف القانون الداخلي للغرفة السفلى مع هذا النص الدستوري.
يعتقد بعض النواب أن تغيبهم عن الجلسات نابع من عدم قدرتهم على التغيير، للسيطرة العددية لأحزاب السلطة.. هل تجد هذا مبررا؟ كلام مردود على المتحججين به، فالنائب له مبادئ وبرنامج ولابد من أن تكون له كلمة يقولها وتبقى في التاريخ، حتى ولو لم تغير أقوالك وأفكارك شيئا، فأنت تحسس الغير وتثري الفكرة، فمثلا أنا معارض وأقدم فكرة أو مقترحا، فلربما هذه الفكرة تفيد النظام. أما التحجج بسيطرة الأغلبية، فأتركها كفكرة ولا أتبناها، فغدا عندما تخرج لمواجهة الشارع، فعليك أن تملك ما شاركت به في المناقشات، وتريهم مقترحاتك، أما الانسحاب وترك الكرسي شاغرا ففكرة خاطئة تماما.
الوزير السابق ونائب رئيس المجلس الشعبي الوطني إسماعيل ميمون ل"الشروق": قانون معاقبة النواب على الغياب لازال ينتظر الصدور في الجريدة الرسمية شوهدت مقاعد المجلس الشعبي الوطني شبه فارغة أثناء مناقشة مشروع قانون المالية لسنة 2018.. ما تعليقكم؟ هو أمر مؤسف أن نرى مقاعد الغرفة السفلى للبرلمان شبه فارغة أثناء مناقشة مشروع يكتسي أهمية كبيرة على غرار مشروع قانون المالية، لاسيما وان البلاد تمر بوضع مالي صعب للغاية، حيث كان من المفروض آن يكون النقاش ثريا، هدفه دراسة التدابير المالية المتخذة من طرف الحكومة للخروج من الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد جراء تراجع أسعار النفط، لكن غياب النواب عن الجلسات دل على عدم اهتمام النائب بالمشاريع القانونية التي يفترض أن تتضمن ما يهم من صوت عليه لتمثيله، وأنا هنا لا أتحدث فقط عن قانون المالية فقط، فهناك العديد من المشاريع المهمة مرت على البرلمان ونوقشت أمام كراسي فارغة.
هذه القضية كانت محل جدل وقد أدرجت تدابير تشريعية لمواجهة هذه الظاهرة.. فمن يتحمل المسؤولية؟ في الحقيقة من يتحمل المسؤولية هو البرلمان، والنائب الذي يفترض أن يعبر عن صوت الشعب، وقانون المالية كغيره من القوانين المهمة التي كان من المفروض أن يناقش في جلسات تكون بحضور كل نواب الغرفة السفلى، لذا أعيد وأكرر هذا الغياب هو أمر مؤسفا للغاية.
هل أعضاء المجلس الشعبي الوطني المتغيبون عن الجلسات هم من نواب الأغلبية أو المعارضة؟ لا يمكنني تحديد الانتماء السياسي للنواب المتغيبين، لكن يمكن أن أقول إن نواب الكتلة البرلمانية لتحالف حركة مجتمع السلم، حضروا كل الجلسات، والدليل أنه من أصل 34 مداخلة تم تسجيل 28 تدخلا لنواب حزبنا، لذلك يجب البحث عن المتغيبين في كتل أخرى.
يعتبر مشروع قانون المالية من أهم المشاريع الذي يفترض أن يستميت فيه النائب للدفاع عن من صوت عليه، فماذا يعني تغيب النائب عن موعد من هذا القبيل، من الناحية السياسية والقانونية؟ هناك من برر سبب غياب النواب عن جلسات مناقشة قانون المالية بسوء برمجة المشروع، والذي تزامن مع الحملة الانتخابية لمحليات 23 من الشهر الجاري، لكن في رأيي أن هذا المبرر غير مقنع والدليل أن المناقشة لم تدم سوى ثلاثة أيام فقط، فأنا مثلا حضرت كل الجلسات، واليوم أنا بصدد النزول إلى الميدان لاستكمال ما تبقى من أيام الحملة الانتخابية، أما من الناحية القانونية فإن الأمور واضحة ومضبوطة قانونيا ولا يمكنني التعليق على غيابهم.
تتحدث المادة 116 من الدستور عن عقوبات على النواب المتغيبين.. هل تمت معاقبة نواب بخصوص هذه القضية؟ في الحقيقة المادة 116 من نص الدستور واضحة وهي تنص على عقوبات في حق النواب المتغيبين، كما أن النظام الداخلي للغرفة السفلى امتثل للمواد الجديدة الواردة في نص الدستور الجديد من خلال استصدار قوانين تطبيقية، إلا أن العمل بهذا النظام لم يطبق بعد، لأن التجسيد يجب أن يعقب صدور القانون في الجريدة الرسمية، وهو الأمر الذي لم يحدث لحد الساعة، على عكس الغرفة العليا التي ستشرع في تطبيق النظام الداخلي بداية من الأسبوع المقبل، بعد ما استنفدت كل الإجراءات المطلوبة على هذا الصعيد.
يعتقد بعض النواب أن تغيبهم عن الجلسات نابع من عدم قدرتهم على التغيير، للسيطرة العددية لأحزاب السلطة.. هل تجد هذا مبررا؟ أنا ضد من يقول إنهم أقلية ولا يمكن لهم التغيير داخل قبة زيغود يوسف بالنظر للمنطق العددي، وبالتالي فإن حضورهم من عدمه لن يؤثر على جلسات المناقشة، لذا أؤكد وأقول إن حضور النائب واجب ودفاعه عن صوت المواطن الذي انتخبه أمر مقدس، وحتى وان علمنا أن المنطق العددي لا يمكن الأقلية من إحداث التغيير، فالنضال يجب أن يستمر حتى وان كان هؤلاء أقلية وصوتهم داخل البرلمان غير مسموع.