لفت انتباهي عنوان أوردته إحدى اليوميات الوطنية الصادرة هذا الأسبوع، لكني لم أتفاجأ بمضمونه المتعلق بالأساتذة والمعلمين الذين دخلوا "زنقة لهبال" في الجزائر -حسب تعبير الجريدة- بسبب ما يعانونه من أمراض عصبية ونفسية أدت إلى إصابة الكثير منهم بالانهيار العصبي والهذيان والجنون، وأمراض جسمانية أخرى قتلت الكثير منهم جراء الضغوط التي يعانونها من خلال ممارسة أنبل وأجمل المهن التي صارت مصدرا للأرق والمرض والموت المفاجئ، ولم تعد تلك المهنة التي كنا نحلم بممارستها عندما كنا صغارًا! * وإذا كان هذا هو حال المعلم والمربي التي تقع على عاتقه مسؤولية تنشئة الأجيال، وهذا هو حال المثقف والمتعلم، فما بالك بأحوال الطبيب والمهندس والطيار والإداري والشرطي والميكانيكي والبطال وغيرهم؟ وماذا لو بحثنا في أسباب أمراضهم ووفياتهم وتطرقنا إلى مشاكلهم وظروف ممارستهم لمهنهم؟ وماذا لو تكلم كل واحد منهم وكشف للطبيب النفسي عن مكنوناته وما يعانيه مع ذاته ومع من حوله؟ * أدرك جيدا أن الموت حق ولن يتأخر أو يتقدم دقيقة واحدة إذا جاء أجله، ولكني بحكم ممارستي لمهنة المتاعب ومتابعتي للعبة المصاعب (كرة القدم)، أكاد أجزم بأن الصحافة والكرة تتسببان لأصحابهما في الكثير من الأمراض، وتقتلان "بالقنطة" أكثر من أي مجال آخر، خاصة عندما أسمع عن الكيفية التي يموت بها الزملاء والوجوه الرياضية، وأسمع عن الإعلاميين والمسيرين والمدربين واللاعبين الذين دخلوا "زنقة لهبال" بسبب الضغوط التي يعيشونها، والهذيان الذي يصيبهم من جراء الإفراط في الاهتمام، ومن كثرة المشاكل والمتاعب والعراقيل، وصعوبة ممارسة اللعبة والمهنة في مجتمع طغت عليه الأنانية والمادة والحقد.. * فهذا يموت من شدة ضغوط المهنة ومتطلباتها وما يحيط بها، وذاك يموت ببطء بسبب ضغوط النتائج والأنصار والمحيط، وإن لم يمت أصابه الجنون بسبب متطلبات ممارسته لهذه المهنة أو تلك، وبسبب قلة الإمكانيات والتفكير المتواصل في كيفية الخلاص من المؤثرات، وبسبب كل هذا الذي يحيط بالإعلام والكرة من المصالح والمزايا والأطماع والأضواء المسلطة عليهما.. * في الإعلام والصحافة -وأبدأ بنفسي- أقر بأنني كنت قريبا من دخول "زنقة لهبال"، وقريبا من الإصابة بالانهيار العصبي عندما كنت في التلفزيون الجزائري، بسبب الضغوط الداخلية والخارجية، والمهنية والشخصية، وبسبب صراعنا اليومي مع الذات وعلى كل الجبهات. * واليوم عندما أتمعن في الكيفية التي يموت بها الزملاء الصحافيون والتقنيون بل والإداريون أيضا، وأتمعن في الأمراض المزمنة التي يعانيها زملائي في الصحافة المكتوبة والمسموعة.. أتيقن بأن الصحافة عندنا تقتل أيضا بكيفية رهيبة وغريبة، فأغلب العاملين في القطاع يتخبطون في مشاكل صحية مختلفة، وأخرى نفسية مزمنة وقاتلة، وأغلبهم ضيعوا حياتهم الشخصية والعائلية، وتاهوا وسط عالم مليء بالحب والمتعة والشهرة، وبالكره والحقد والحسد.. * عالم فيه من ينبش في عيوب الغير ونقائصهم، ولا ينظر في المرآة ليشاهد عيوبه ويعالج الأمور بعيدا عن الذاتية والمصلحة.. عالم فيه من يبحث ليل نهار عن الإشهار والأخبار والمادة الإعلامية المثيرة، بعيدا عن المهنية ورقابة الضمير.. عالم فيه من يحب هذه المهنة ويقدرها، ويحترم القارئ والمشاهد والمستمع ويسعى لخدمته وخدمة وطنه، ولا يشعر بالتعب ولا يرتاح إلا عندما يدخل "زنقة لهبال" أو يغادر هذا العالم.. * أما في الكرة فإن المال والشهرة، والخيبة والفرحة.. كلها عوامل قتلت البعض، وطرحت البعض الآخر على فراش المرض، فصرنا نسمع عن المسيّر وهو يموت أو يمرض حسرة على الكرة وأحوالها، وبسبب ضغوط البحث عن النتائج ومصادر التمويل، ويموت لأنه يريد الفوز باللقب أو الصعود أو يريد البقاء رئيسا مدى الحياة. كما نسمع عن المدرب يموت أو يدخل "زنقة لهبال" لأنه أخفق في التتويج باللقب أو ضمان البقاء، ولا يتقبل الإقالة.. ويدخل "زنقة لهبال" لأنه يريد أن يكون مدربا وطنيا، ويمرض من شدة "القنطة" والغيرة والحسد لأن زميله صار مدربا وطنيا أو توج باللقب. * اللاعب بدوره يمرض ويموت لأنه لا يتقبل سنة الحياة، بعدما يجد نفسه بعيدا عن الواجهة ولم يستفد من نجوميته في وقتها، ولم يعد لاعبا دوليا تتهافت عليه الأندية، ولم يفكر في تأمين مستقبله عندما كان يتقاضى الأموال بالملايين، فتجده "يشحت" وظيفة أو منصبا أو مبلغا ماليا ينفقه على أسرته. * أما المناصر فصار يعاني هو أيضا لأن فريقه خسر المباراة أو نزل إلى الدرجة السفلى، وقد يموت فرحاً أو حسرة أو بسبب حماسه الزائد ومشاجرته مع مناصر آخر، كما قد يمرض بسبب خسارة المنتخب لأنه في نظره يجب أن لا يخسر. * المثل عندنا يقول "تعددت الأسباب والموت واحد"، ولكن في الصحافة والكرة يكثر الأموات والمرضى والسبب واحد.. ينحصر في ضغوط المهنة والممارسة، وعدم قدرتنا على تقبل الأشياء والتعامل مع الفوز والخسارة، وانعدام القناعة والأخلاق.. وحتى إن لم تقتل الصحافة والكرة، فإنهما تقودان إلى "زنقة لهبال"، وعندها يكون الموت مرة واحدة أفضل من الموت عدة مرات دون أن تفارق الحياة.. * وما دام كل شيء يؤدي بالمعلم والصحافي والرياضي إلى "زنقة لهبال"، فإن منظومتنا الاجتماعية تعاني خللا يجب الوقوف عنده وإصلاح ما يمكن إصلاحه، لأننا نملك القدرة على ذلك، ولا تنقصنا سوى الرغبة والإرادة وقليل من الأخلاق وكثير من الحب بيننا.. وعندها يموت المعلم والصحافي والرياضي، ولكن ليس بسبب التعليم والصحافة والرياضة.. * * derradjih@gmail.com