بعد التأهل إلى المونديال والتألق في نهائيات كأس أمم إفريقيا بأنغولا، كنا نعتقد بأن كرة القدم والمنتخب الوطني بعثا فينا روحا جديدة، وحرّكا فينا مشاعر الوطنية والاعتزاز والافتخار، في وقت غاب فيه دور الأسرة والمدرسة والمسجد وأغلب المؤسسات، فزاد تعلقنا بالمنتخب وكبرت طموحاتنا وآمالنا خلف أمور مؤقتة وهشة، وتحوّل سعدان إلى بطل قومي، وعنتر وزياني وغزال وبلحاج إلى نجوم، واستعاد الجزائريون نكهة الحياة والابتسامة، وصار الجميع يتنفس ويأكل الكرة، ويصحو وينام على جديد المنتخب وأخبار لاعبيه. * ولكن، لأننا ربطنا مصيرنا وآمالنا وطموحاتنا بمنتخب الكرة، ولأننا لم نستثمر ولم نوظف الأمر كما ينبغي، ولأننا أعتقدنا بأننا وصلنا.. كانت الصدمة شديدة وعنيفة بمجرد التعثر في بداية تصفيات كأس أمم إفريقيا. * لا أجزم بأن هذه المشاعر أو تلك طغت على الجميع، ولكنّ الكرة نفسَها والمنتخبَ ذاته بمجرد تعثرهما، عادا ليقتلا في الكثير منا كل ذلك الشعور الجميل الذي عشناه، ويقتلا النفوس والعقول ومعنويات الجماهير، ويؤثرا سلبًا على البطولة الوطنية وعلى رياضات ومجالات أخرى وحتى على وسائل الإعلام، ليعيدانا إلى عهد خلا كنا نبكي فيه ونتحسر على أحوالنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وحتى الرياضية. * الكرة والمنتخب قتلا البطولة الوطنية عوض أن يبعثا فيها روحا جديدة ويرفعا مستواها، فخلت المدرجات من أنصار النوادي، ولم نشعر بالفرق بين دوري المحترفين لهذا الموسم والدوريات السابقة، ولم تعد البطولة تلقى الاهتمام الجماهيري المعهود، بل وافتقدنا حتى ذلك الحماس الذي تعوّدنا عليه. * أما اللاعب المحلي فلم يعد له طموحا، اعتقادا منه بأن أبواب المنتخب مفتوحة فقط للاعبين المحترفين من خارج الوطن، والمدرب المحلي رغم مجيء بن شيخة أضحى يدرك أنها فرصته الأخيرة لإثبات وجوده، بعد حملة التشكيك التي طالته، وتركيز الجميع على ضرورة الاستعانة بمدرب أجنبي كبير لأن منتخبنا لن تقوم له قائمة بأي مدرب محلي. * الكرة والمنتخب قتلا كل الرياضات الأخرى التي لم نعد نسمع عنها وعن اتحادياتها وبطولاتها ومدربيها ولاعبيها، فضلا عن التحدث عن مشاكلها وهمومها، فلم تعد لنا سباحة ولا ملاكمة ولا ألعاب قوى ولا حتى رياضات جماعية أخرى ورياضة مدرسية وجامعية.. * لا أحد يعلم بأن الألعاب العربية والإفريقية اقتربت، وأن الألعاب الأولمبية على الأبواب، ومع ذلك فالشباب الممارس للرياضة تنخفض أعداده بشكل رهيب، والمرافق تجاوزها الزمن، والكوادر المؤطرة قليلة وتحتاج إلى تكوين وإعادة تأهيل، بل وتحتاج إلى تثمين وتقدير لأنها تعاني.. * الكرة والمنتخب قتلا كذلك بعض النفوس المريضة بالحقد والغيرة أو زاداها مرضا لأنها كانت تتمنى أن تكون في الاتحادية والمنتخب وتكون في الواجهة، وعندما سدت في وجوهها الأبواب عادت لتنقلب على أعقابها وتشكك في كل شيء، بعدما كانت تتسابق إلى المدح، وتتودد هذا وذاك وتعرض خدماتها هنا وهناك، وتصفق وتخوض مع الخائضين.. ولما تعثر المنتخب ظهرت على حقيقتها. * الكرة والمنتخب قتلا بعض مجالات الحياة عندنا، فالساسة اختفوا عن مسرح الأحداث ونسوا واجباتهم تجاه الوطن والمواطن، وتسارعوا إلى الاستحواذ على إنجازات المنتخب.. والمثقفون قلّت إبداعاتهم أو تلوّنت بألوان كروية، واختفت الأغاني الجميلة والأفلام والمسلسلات الهادفة والمهرجانات والأنشطة الثقافية، وصار الكل يجري وراء الكرة وعالم الكرة.. * أما الانتهازيون من المجرمين في حق الاقتصاد الوطني ومؤسساته، فقد وجدوا ضالتهم في السلب والنهب لأن الدولة والشعب انشغلا بالكرة والمنتخب، فانتشرت الجرائم الاقتصادية والاجتماعية والجرائم المنظمة، وساد الفساد والتهاون واللامبالاة بعض القطاعات، في وقت كان الكل فيه يغني ويرقص للمنتخب. * الكرة والمنتخب سرقا كل الأضواء لدى الصغار والكبار والنساء والرجال، وفي الشارع والمدرسة والجامعة والمسجد وكل المؤسسات، رغم المسؤوليات والتحديات الأخلاقية والتربوية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية الكثيرة التي تنتظرنا وتنتظر الأجيال الصاعدة، لبناء مجتمع سويّ لا يتأثر بنتائج المنتخب ولا يضع مصيره بين أرجل لا تعرف التسديد والتسجيل والطريق إلى الفوز منذ مدة. * بعد تعادل المنتخب مع تنزانيا وخسارته أمام جمهورية إفريقيا الوسطى، صار سعدان مدربا فاشلا، وبن شيخة غير مؤهل للتدريب، والمنتخب ضعيفا يجب تغيير لاعبيه، وصارت القلوب لا تخفق لانتصارات وتعثرات الخضر، وهناك من ذهب إلى حد المطالبة بتغيير كل شيء وإعادة النظر في كل شيء، ونسيان كل الذي تحقق. * الصحافة من جهتها تحوّل بعضها إلى معوّل هدم وتحطيم لكل بادرة أمل، بعدما أدّت دورها وأكثر في وقت الشدة، وبعدما استعادت قراءها ومتتبعيها، وها هي اليوم تقتل فينا الأمل والطموح وتزيد من حجم التشاؤم والتشكيك بقصد أو بدونه، لتتحول إلى منبر للحاقدين والفاشلين والانتهازيين. * الجماهير بدورها بدأت تفقد تعلقها بمنتخبها وتتخلى عن دعمه ومساندته لأنه تعادل وخسر، أو لأنها كانت تتمنى مدربا آخر غير بن شيخة، وذهبت إلى حد المطالبة باستبعاد غزال وبلحاج وعبدون وغيرهم، وهناك من لم يعد يتابع أخبار المنتخب ومن فقد ثقته فيه وسكنه اليأس والشك والهم والغم بسبب الكرة والمنتخب. * هذا هو حال أغلبيتنا اليوم، رغم أن الجزائر ليست فقط كرة القدم ومنتخبها، ولا يتوقف مصيرها ومستقبلها على كرة ومنتخب ما زال في طور التكوين ويحتاج إلى المزيد من العمل والجهد والانضباط والتركيز، وإلى الكثير من الثقة والصبر، بعيدا عن الغرور والتعالي. أما من "استخسر" فينا البسمة والمتعة والروح المعنوية العالية، فنرجوا له الهداية لأنه منا ونحن منه، وليس لنا وطن آخر ولا منتخب آخر نفتخر ونعتز به.. * * derradjih@gmail.com