التونسة هي عام الخير للشعوب العربية؛ فقد انهت عصر "الصوملة" و"الفتنمة" وجعلت الأنظمة السياسية تتراجع أمام المد الشعبي في الشارع العربي. * طوينا سنوات الاستخفاف بانتفاضة الشعوب، والتفكير اللينيني والماوي والتروتسكي وإسناد المهمة للأحزاب في تأطير الشعوب، ومحونا الفكر الليبرالي الأمريكي في الإطاحة بالأنظمة الديكتاتورية عبر الاحتلال للشعوب. *
* سقوط سلطة الجراية * تستند الحكومات الغربية في منح اللجوء السياسي إلى الفارين من الديكتاتورية العربية إلى وضع راتب شهري زهيد لهم لتحولهم إلى أبواق لها في حال احتلال بلدانهم، وتلجأ الأنظمة إلى تضخيم رواتب موظفيها السامين ووضعهم في إقامات رسمية لمنعهم من الاختلاط بالشعب. * لكن هذه الجراية فقدت سلطتها أمام زحف الشارع لتحرير المواطن من الخوف على مستقبله المرهون لدى "مجموعات النهب المنظم". * إن ما حققته "التونسة" هو أنها استطاعت أن تخلصنا من ثقافة الخوف من السلطة التي زرعتها النخب الثقافية العربية في الأذهان. * التغيير بات وشيكا والإصلاحات لم تعد تجدي نفعا لبقاء الأنظمة؛ فسلطة الجراية سقطت. والنظرية "البوشية" المتعلقة بالديمقراطية والإصلاح في الشرق الأوسط الكبير سقطت بعد صعود "حماس" عام 2006 إلى السلطة عبر صناديق الانتخابات، مما جعل "النظرية البوشية" تعترب الديمقراطية في الوطن العربي هي وصول الإسلاميين إلى السلطة. * وجاءت فكرة التحالف مع الأنظمة القائمة والنتيجة الحتمية هي بروز عام "التونسة"، وهو عام الخير بالنسبة للشعوب العربية. * وجاء أوباما بمشروع جديد للعالم الإسلامي والوطن العربي، فعقد في جانفي 2010 اجتماعا مع ممثلي ما يسمى ب (العالم الإسلامي) مجسدا في 150 شخصية اقتصادية لتكون مدخله الجديد للإصلاح، بمنطق "الدبلوماسية الرخوة في الإصلاح"، لكن رجال الأعمال عادوا إلى بلدانهم بمفهوم آخر للإصلاح، وهو اتزاز السلطة برفع الأسعار من المواد إلى العقار واستغلال "الشارع" للنهب أكثر، وهو ما حدث في الجزائر في جانفي 2011. * لقد فقد العالم شاعرا كبيرا وهو بابلو نيرود الذي احتضنت الجزائر عائلته وهو يقف إلى جانب الرئيس الشيلي أليندي في مواجهة المؤسسة العسكرية المدعومة أمريكيا، واستشهد الرئيس صدام حسين وهو يقاوم الغزو الأمريكي للعراق، ولكن ما فعل الرئيس التونسي زين العابدين بن علي؟ * الإجابة بسيطة، وهي تقمص شخصية الجنرال ديغول في مواجهة الثورة الجزائرية "فهمتكم" في مواجهة الشارع الفرنسي بالهروب والعودة بعد انطفاء موجة الغضب. * والنهاية مختلفتان بالنسبة لديغول وبن علي. وإذا كان الشعب المصري حسب نخبه ينتظر من الرئيس حسني مبارك أن يقول لهم مثلما قال الرئيس الفرنسي تشارل ديغول أو الرئيس التونسي "أنا فهمت الشعب"، فإن ما يقوم به حاليا هو لخدمة الأحزاب وليس في فائدة الجميع. * إذا حدث تغيير في النظام السياسي المصري فإن الشعوب العربية ستأخذه قدوة لها مثلما صار العام التونسي قدوة للشارع العربي في التغيير. * وإذا وقعت انتكاسة في مصر فإن تداعياتها على المنطقة العربية ستكون مخيفة. * * هل الجزائر استنثاء؟ * يخطئ من يعتقد أن هناك قطرا عربيا واحدا سيكون مستثنيا من "التونسة"، فكل الأقطار العربية بما فيها فلسطين ستعصف بها ثورة الشارع. * ويخطئ من يتصور أن الفوضى ستعم الوطن العربي، لأن كل ثورة تولد آليات تسييرها وقياداتها، فالأحزاب الجزائرية التي دخلت البرلمان الفرنسي في الأربعينيات والخمسينيات وحتى حزب الشعب لم يتوقع أن تكون هناك ثورة ويقودها 22 شابا، وبالرغم من أن مصالي الحاج كان حاملا فكرة تحرير الجزائر واسترجاع الاستقلال لم يستجب لنداء هؤلاء الشبان، فهل تستطيع الحكومات العربية والأحزاب في الوطن العربي أن تدرك ما يدور في أذهان "جيل التونسة"؟ * يعتقد بعض المحللين بأن النظام التونسي السابق وضع المعارضة في السجون والمنافي وأغلق أفواه الجميع إلا "رجال الأمن"، ومن الطبيعي أن تنجح هذه الحركة الشعبية التي أرادت بعض النخب وصفها ب (ثورة الياسمين) تيمما بالثورة البرتقالية الأوروبية، والبعض اعتبرها ثورة البطالين أو الفقراء، والحقيقة إنها ثورة "استرجاع الكرامة" من الأنظمة الفاسدة. * ما يجري في الجزائر حاليا يعطي الانطباع بأن هناك أحزابا تزيد تحريك الشارع أو احتواء ما يخيل لها من أن الشارع الجزائري تحرك في جانفي 2011. * ما يحدث في الجزائر هو التفاف الجميع حول برنامج الرئيس من أحزاب ومجتمع مدني، مما يعني أن الشارع إذا تحرك سياسيا فإنه سيسقط أحزاب الائتلاف، وسيشكك في مصداقية الأحزاب التي تطالب بانتخابات برلمانية وهي ترفض الاستقالة من البرلمان أو تطالب برفع حالة الطوارئ وهي غير موجودة في المنطقة الممثلة لها في البرلمان. * وأحزاب أخرى تحمل مبادرات وهي أصلا أحزاب شوهت العمل الحزبي في الجزائر وكشفت المستور فيها. * هناك حالة ترقب و"حرب إشاعات" في الشارع الجزائري، ولا أحد يستطيع أن يتكهن بما سيحدث، فالأحداث في تونس ومصر واليمن تقترب من إحداث التغيير. والمعروف عن الجزائري أنه لا يتسرع في اتخاذ القرارات. * فما هو القرار الذي يمكن أن يتخذه الشارع في الجزائر؟ * مشكلة النخبة الجزائرية أنها لا تدافع عن برامج سياسة أو مشروع وطني بقدر ما تدافع عن أشخاص. وكل جزائري يفكر في من سيحكم الجزائر قبل التفكير في نوع برنامجه. * وأذكر أن الرئيس السابق أحمد بن بلة قد غضب مني بحضور سفير الجزائر في ليبيا وشخصيات أمنية وصحفية أثناء تصريحه بأن لا يوجد في الجزائر رئيس يصلح لقيادتها، فقلت له بأن هناك 28 مليونا (آنذاك) يمكن لكل واحد منهم أن يصبح رئيسا إذا انتخبه الشعب، وأنت كنت رئيسا لنا. * الحقيقة التي لا تقال هي أن لنا مشكلة في الجزائر هي أننا لا نتحمس للبرامج بقدر ما نتحمس للأشخاص، وفي ذهن كل واحد منا رئيس، وكأن الشعب الجزائري في حاجة إلى من يقوده وليس إلى برنامج يستجيب لحاجاته ومطالبه. * والحقيقة الثانية هي أن السلطة صارت المسؤولية فيها مرتبطة بأسماء معنية، ولا أتصور أن هناك في بلد أوروبي يستطيع شخص أن يتقلد أربع وزارات أو يتداول على الحكومة ثلاث مرات إلا إذا انتخبه الشعب ببرنامجه السياسي. أوليست التونسة عام الخير؟