كيف بدأت الثورة .. ناحية البيض محمد محمد عباس ولد المجاهد الرائد إبراهيم مولاي (عبد الوهاب) عام 1925 في بادية البيض، وبدوار أولاد سيدي الحاج على وجه التحديد. ونشأ نشأة عادية، مكتفيا بتعلم مبادئ العربية كتابة وقراءة وحفظ ما تيسر من القرآن الكريم، لأن المدرسة الفرنسية كانت يومئذ بعيدة جدا عن أطفال البادية مسافة وعرفا. وفي ريعان شبابه عاش واقعة، جعلته يعي فجأة حقيقة وضع الجزائري في بلاده. فقد تخاصم اثنان من عائلة الطيبي على أرض وبعض الأشجار، وبلغ ذلك حاكم البيض فخرج لمعرفة ما يجري.. وكان على الشاب إبراهيم أن يستقبله في نقطة ما مصحوبا بالفرس التي تنقله إلى المكان المذكور، لأن سيارته لا يمكن أن تتقدم أبعد من ذلك، لانعدام المسالك الممهدة فما بالك الطرق المعبدة. كان أحد المتخاصمين وهو عسكري سابق بالجيش الفرنسي سباقا لاستقبال الحاكم. وبعد أن سار معه مسافة معينة وبالقرب من شجرة صفصاف سأله الحاكم: لمن هذه الشجرة؟ فأجاب بكل عفوية: "لي يا سيدي الحاكم"! غضب الحاكم لهذا الجواب ومسك صاحبه من لحيته مكررا سؤاله. حاول أن يتدارك مرتبكا: "هي لك ياسيدي الحاكم!" وهنا رد عليه بعنف :"يا ابن الكلب.. هي ملك فرنسا!" ثم دفعه دفعا.. هذا الموقف فاجأ الشاب إبراهيم وجعله يتساءل في قرارة نفسه: كيف ؟! آلا يملك العربي المسلم في هذه الديار حتى صفصافة؟! فلماذا نحن موجودون هنا إذا؟! وجاءت الحرب العالمية الثانية، ثم مجازر 8 مايو 1945 لتسقي بدمائها الزكية هذا الوعي الخام الذي ما لبث أن أصبح وعيا وطنيا. بعد الحرب مباشرة بدأت تروج في الصحراء عامة تجارة الأسلحة التي تركها الجنود الطليان والألمان في الصحراء الليبية خاصة، عقب هزيمتهم واستسلام بلديهم.. فركب الشاب إبراهيم هذه الموجة التي جعلته يقترب أكثر إلى الوطنيين الذين أخذوا في تلك الفترة بالذات، يجمعون الأسلحة استعدادا لمعارك قادمة مع الاحتلال الفرنسي. وبفضل هذه العلاقة التجارية أصبح متعاطفا مع حزب الشعب الجزائري. ومالبث أن عبر عن ذلك في غصون 1946 بدفع 20 دورو (100 سنتم) للشيخ بن دينة الخياط كعربون التزامه واشتراكه. وبعد أن تدرج في النضال تمكن من التعرف على أقطاب الحركة الوطنية الثورية، أمثال حسين لحول ومحمد خيضر ودماغ العتروس ومحمد فرطاس.. وأحمد بن بلة الذي زار المنطقة متنكرا.. ما يؤكد أن البيض أصبحت غداة الحرب العالمية الثانية مركز نشاط هاما للحركة الوطنية. وفي هذا السياق شارك المناضل إبراهيم في حملة انتخاب أول مجلس جزائري بموجب القانون الخاص بالجزائر الصادر في 20 سبتمبر 1947 والذي ألغى الطابع العسكري عن الأقاليم الصحراوية. وقد كلف بالحملة في ناحية معينة حيث أبلى بلاء حسنا.. رفقة زميله عبد الباقي الطيبي.. رشحت حركة الانتصار على الدائرة المناضل بوعلام باقي، بينما رشحت إدارة الاحتلال الأستاذ حمزة بوبكر وحزب البيان الباشاغا خلادي. وكانت أجواء الحملة تؤشر بفوز ساحق لمرشح الحركة. وتفطن قائد برزينة للأمر، فاتفق مع الحاكم "جورَا" على إعداد مشوي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه! علم الوطنيون بذلك فسارعوا بإعداد وليمة مضادة، لتفويت الفرصة على الحاكم وقائده! ورغم أن أخوال حمزة بوبكر من برزينة، فإنه لم يحصل فيها على غير صوت القائد وزوجته حسب الشاهد! فاز بوعلام باقي فوزا ساحقا لكن لفترة قصيرة، لأن إدارة الاحتلال ما لبثت أن تآمرت على النائب المنتخب وزجت به في السجن طيلة عامين. هذا الحيف أخرج المناضل إبراهيم عن طوقه، فأقسم ألا يعود للنضال إلا إذا ارتسمت آفاق إعلان الثورة على فرنسا. ولحسن الحظ أن حركة الانتصار كانت قد أسست يومئذ المنظمة الخاصة ضمن هذه الآفاق بالذات، وعينت على رأسها بالبيض محمد مولاي، فلم يجد كبير عناء في استقطاب الطاقة الثورية الكامنة في ابن عمه إبراهيم.. الذي وجد بذلك الإطار المناسب للتعبير عن حيويته النضالية، ومواصلة نشاطه في تجارة الأسلحة في نفس الوقت.. ونظرا لبعد المنطقة وعزلتها آنذاك، ظلت بمنأى عن الزوابع التي هزت المنظمة الخاصة بالإعلان عن اكتشافها في ربيع 1950، وما لبثت أن هزت القيادة المركزية ذاتها. وفي منتصف يوليو 1954 بعد استفحال الخلاف بين أنصار مصالي وأنصار اللجنة المركزية لحركة الانتصار، عقدت الطائفة الأولى مؤتمرا خاصا بها في "هورنو" (بلجيكا)، شارك فيه من البيض أحمد حسني دون إشعار عامة المناضلين بالخلاف ومضاعفاته. وفي الفترة نفسها تقريبا، حل بالمنطقة المناضل رمضان بن عبد المالك عضو مجلس ال 22 بعد حادثة مع قايد بوقطب. فقد نزل من القطار في نقطة ما، ثم أخذ يترقب سيارة توصله إلى هذه البلدة. وصادف أن مر قايد البلدة فنقله معه، لكن ليتجه به مباشرة إلى مركز الشرطة بعد أن أشتبه في أمره، ولحسن الحظ أن وثائقه المزورة لم تثر انتباه الشرطة فأخلت سبيله. اجتمع بن عبد المالك بعناصر المنظمة الخاصة ومنهم محمد مولاي، ليشعرهم بأن ساعة الثورة قد اقتربت وأن عليهم أن يشرعوا في جمع الأسلحة. وكان المناضل إبراهيم من الذين يعول عليهم في هذه المهمة الصعبة. وكان قرار "لجنة الستة" عشية إعلان الثورة، أن تلتزم المناطق الصحرواية القريبة من الحدود الشرقية والغربية الهدوء، بينة استخدامها لتهريب الأسلحة ونقلها إلى البؤر الثائرة هنا وهناك شمال البلاد، لذا اكتفى إبراهيم مولاي ورفاقه بهذا الدور حتى صائفة 1955. ففي أواخر أوت ألقي القبض على مسؤولي نظام الجبهة مثل محمد مولاي وعبد الباقي، فاضطروا إلى الاعتصام بالجبال والمبادرة من تلقاء أنفسهم، بشن عمليات لا تجلب لهم غضب قيادة الجبهة بالناحية وعقوباتها وقد اقتصرت هذه العمليات في البداية على: اتلاف شبكة الهاتف. حرق ورشات جمع الحلفاء، وكان عددها قرابة 40 ورشة. حرق الحافلات وشاحنات المستوطنين. إعدام بعض الخونة، بدءا بالذي أوشى للعدو بمسؤولي نظام جبهة التحرير. وبفضل هذه المبادرة تكونت بالناحية ثلاث مجموعات مسلحة؛ مجموعة بوشريط والمعماري وإبراهيم مولاي الذي أصبح يدعى عبد الوهاب. هذه المجموعات ظلت تكافح بمعزل عن نظام المنطقة الخامسة (وهران) حتى أواخر 1955، عندما تمكن المناضلان العيدوني وعامر محبوبي من مقابلة بوالصوف الذي جهز كتيبة من خيرة المجندين، وبعث بها في ربيع 1956 إلى الناحية بقيادة موسى بن أحمد (سي مراد). وصل بن أحمد سالما مع وحدته التي قام بتوزيعها على المجموعات الثلاث في حدود 30 جنديا لكل منها، وقد انتعش الكفاح بفضل هذا الدعم الهام، بعد أن ظهرت الكمائن الأولى التي تستهدف وحدات العدو بالناحية، وبعد فترة وجيزة تكونت أربع كتائب بقيادة عبد الوهاب وبوشريط والعماري وزرزي، ثلاث من هذه الكتائب شاركت في معركة صدامية طاحنة بضواحي آفلو، بعد أن وضعت خطة هجوم على معتقل بالناحية لتحرير السجناء السياسيين خاصة، لكن العدو تفطن للأمر فأرسل قوات ضخمة، لتعزيز حماية المعتقل ونصب كمين لوحدات جيش التحرير. سارع عبد الوهاب ورفاقه بمراجعة الخطة الأولى، بنصب كمين لهذه القوات المؤلفة من زهاء 90 ناقلة جنود وتوابعها، وتلقى العدو دعما من 16 ناقلة أخرى، تمكن جنودها من الالتفاف على المجاهدين ونصب كمين مضاد على طريق انسحابهم.. وهكذا جرت معركة طاحنة في 3 أكتوبر 1956، تكبد فيها العدو خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، وخسر فيها المجاهدون عددا هاما من الشهداء والجرحى الذين وقع بعضهم في الأسر، وقد نسبت دعاية العدو هذه العملية الجريئة إلى فيلق سي مراد. وجد سي مراد صعوبة في مركزة قيادة الناحية، بسبب ما جبل عليه رواد الكفاح المسلح من استقلالية كما سبقت الإشارة. وفي إطار المساعي التي كان يقوم بها لتحقيق هذا الهدف العسكري الحيوي، قتل القائد بوشريط، الأمر الذي أحدث بلبلة كبيرة، نتيجة ما كان يتمتع به من سمعة طيبة، علما أن هذا البطل التحق بالثورة في سبتمبر 1955، بعد أن طلق زوجتيه ووزع عليهما بعض أموال محتفظا بالباقي لدعم الثورة بالناحية. أمام هذه الوضعية الخطيرة، استعان عبد الوهاب بكبير عرش أولاد سيدي الحاج، الحاج محمد صاحب المكانة المرموقة لمعالجة الموقف، والحد من تطوره إلى ما لا تحمد عقباه. وقد وقع الإثنان رفقة سي عبد العالي منشورا في هذا الشأن، لتهدئة النفوس ووقف البلبلة، وكان بوشريط من نفس العرش، فسهل الأمر على الثلاثة بفضل ذلك. يتبع