لم أكن أتوقع أن أغنم في أول يوم لي بلبنان بجولة ميدانية ماراطونية طُفت خلالها بأهم المواقع التي صنعت الحدث طيلة أيام العدوان (33 يوما) ووقفت فيها بالصوت والصورة على الملاحم التي صنعها أبطال المقاومة في الجنوب على مدار 10 ساعات كاملة كانت بدون توقف وتلت رحلة متعبة (جو أرض) من الجزائر إلى سوريا ثم إلى لبنان، دامت بدورها 08 ساعات، تضاف لها 05 ساعات انتظار بمطار الجزائر الدولي نتيجة تأخر الرحلة (كالعادة)، لكن شوق زيارة أراضي المقاومة المباركة والفضول إلى تتبع آثار العدوان التي فاقت "ما بعد بعد المعقول" أنساني التعب وأحسست بدم جديد يجري في عروقي، وكانت الرحلة الخارجة عن المألوف. مبعوث الشروق إلى لبنان: نصر الدين معمري مرجعيون ملغمة ومحرّمة.. ومعتقل الخيام في خبر كان أول نقطة كانت مستهدفة في الرحلة، بعد إنهاء ترتيبات المرور من مركز المصنع الحدودي الذي صادفنا فيه نائب الرئيس الإيراني "علي سعيد لو"، ضمن وفد وزاري هام كان في استقباله وزير الخارجية اللبناني هي بلدة مرجعيون التي دمّرت تدميرا فظيعا وكانت مسرحا لأولى ضربات القنابل الذكية، التي عايّنا بعض آثارها قبل الوقوف على آخر نقطة مطلة على مزارع شبعا المحتلة وتظهر فيها 03 مواقع عسكرية إسرائيلية بجوار تلال كفر شوبة المحتلة كذلك، حيث كان تنقلنا بين الأنقاض مشوبا بالحذر بعد ما تملكنا الخوف من بقايا صواريخ أو قنابل قد تكون غبية (كأصحابها) أو حتى عنقودية، باعتبار أن المناطق التابعة لمحافظة النبطية مازالت مهدّدة بخطر الألغام غير المتفجرة، ونفس الأمر بمعتقل الخيام الذي كان ثكنة أيام الإستعمار الفرنسي وحولته إسرائيل بعد احتلاله إلى معتقل للمقاومين اللبنانيين لغاية 25 ماي عام 2000، يوم التحرير الذي أرجع المعتقل القابع في أعالي الخيام إلى مزار تاريخي لكشف مناكر التعذيب اللاإنسانية التي كانت تمارسها إسرائيل، وهو ما دفع بهذه الأخيرة إلى تحطيمه كلية في العدوان الأخير لتمحو كل آثارها الوحشية، لكن للأسف بوحشية مضاعفة. 05 أمتار فقط تفصلنا عن الشباك الحدودي والأراضي الفلسطينية المحتلة لما فرغنا من معاينة معتقل الخيام الذي استقبلنا فيه رجال حزب الله بالعصير والماء البارد والترحيب الساخن، كان لابد أن نواصل الغوص في أعماق الجنوب اللبناني للوقوف على الأرض التي احتضنت أم المعارك البطولية "بنت جبيل"، والتي كان الطريق الصعب إليها بعد الوقوف على حدود نهر الحصباني الفاصل بين الجبال مليئا بالمغامرات، فقد قادتنا الطريق الوعرة إلى حدود مستوطنات كريات شمونة المحتلة، التي عاث فيها حزب الله بصواريخ الكاتيوشا وأخواتها "الكبريات"، ووصلنا إلى مسافة 05 أمتار فقط، كانت تفصلنا عن الشباك الحدودي الذي شيّدته إسرائيل فوق الأراضي الفلسطينية المغتصبة، وكانت المسافة كافية لنا لبعث نظرات ساخطة (تخنزيرات بطبعة جزائرية) لعدد من العمال اليهود، كانوا يعملون بجوار الشباك تحديدا، والغريب هنا أن الكيان الصهيوني زرع كل الجبال والسهول المجاورة للحدود اللبنانية بكل أنواع الفواكه ضمن سلسلة من البساتين تفصل الحدود عن المستوطنات في الوقت الذي ظلت فيه الجهة اللبنانية من الحدود صخرية وجبلية لا تنفع إلا للمقاومة، زيادة على أننا رصدنا تحصينات دفاعية مكثفة بكل المناطق المحتلة القريبة لنا، مدعمة بمناطيد تجسّس تستعملها إسرائيل لرصد تحركات عناصر حزب الله وجمع المعطيات اللازمة عن التموقعات الملائمة في المعارك التي خاضتها. لافتات إشهارية لتعزية شهداء حزب الله على مدار الرحلة إلى الجنوب، تدرك أن لا وجود لدولة لبنان ولا مؤسساتها ولا جيشها الذي بدأ في الانتشار باحتشام، فقط نصر الله الرقم الوحيد في المعادلة رفقة رجاله الأبطال الذين رسموا بدمائهم وتضحياتهم ملحمة بطولية على طريقة ثورة نوفمبر التحريرية، وتجد في كل القرى والضيعات والمدن الجنوبية شعارات ممجدة للحزب وسماحة السيد وحتى الإمام الخميني، وأمام كل بيت استشهد صاحبه تعلق لافتة صفراء كبيرة تتضمن تعزية رسمية من الحزب الذي رافقتنا مخابراته طوال الرحلة، واستقبلنا أهله في كل مكان نحط به، لأنهم وببساطة لم يرحلوا وظلوا صامدين رغم شدّة الخراب الذي لحق بكل شيء جميل. بنت جبيل.. مدينة الأشباح رغم أني حضرت نفسي لاستيعاب صور الدمار الذي لحق بالمدينة الشاهدة بنت جبيل، التي أصبحت تؤرخ لعهد جديد من المقاومة، إلا أن هول الخراب كان أبشع وأوسع وأضعاف ما قدمته وسائل الإعلام المرئية، فبمجرد ما تصل تدرك أنك في مدينة الأشباح، وحيثما تولي وجهك تجد بقايا لمدينة، فكل البنايات بدون استثناء محطمة عن آخرها بما في ذلك المساجد والمدارس والأسواق والعيادات والطرقات والجسور، والأخطر أن الروائح الكريهة للجثث التي مازالت تحت الأنقاض تنبعث بقوة مادامت عمليات التنظيف والبحث في الأنقاض لم تنطلق بعد، رغم الزيارة التي قام بها أمير دولة قطر الشيخ جاسم الذي وعد بإعادة إعمار كامل المدينة، وهو ما أعاد الروح لبقايا السكان الذين التقيناهم يتفقدون ما جرى في ظل العمليات التي باشرتها فرق متخصصة من المهندسين لمسح كامل للمدينة وتفجير كل ما بقي من ألغام وقنابل، وقد تصادف وجودنا بعدّة تفجيرات ننتظر أن تشمل كامل المناطق الملغمة إحتسابا للعودة القوية للسكان النازحين. مارون الراس.. علامة مميزة في الجهاد والمقاومة لم تكن المدن الكبرى وحدها المستهدفة، بل حتى القرى والمداشر الصغيرة تعرضت لقصف وحشي سوّى بناياتها أرضا بشكل رهيب لا يمكن وصفه ولا عرضه، فكل البلدات التي مررنا بها وتوقفنا عندها مثل هنين، حولة، مركب، عيتارون، عناتة، حريص، ياطر والصديقية.. أصبحت شيئا واحدا هو (اللاشيء) بعدما تمكن الطيران الإسرائيلي الذي كان بمعدل 100 طائرة تلقي يوميا 1500 كغ من القنابل من إصابة كل أهدافه مادام كل شيء هو هدف له، خاصة أن أهالي الجنوب أبدعوا في إعادة إعمار كل الضيعات والجبال بفيلات رائعة تبدو فيلات حيدرة (في الجزائر) أكواخا أمامها، بعد التحرير ويبدو أنهم على موعد مع جولة أخرى من الإعمار (صعبة جدا)، لأن إزالة الركام والبحث عن الضحايا تحت الأنقاض في ظل مخاطر بقايا القنابل التي لم تنفجر عمليات معقدة وتحتاج إلى إسناد كبير لم يصل بعد. في الوقت الذي بدأ فيه حزب الله إحصاء البنايات المتضرّرة ووضع علامات وأرقام تصنيفية أمام كل بيت تمهيدا لعمليات التعويض التي أعلنها وخصّص لها مبلغ أولي ب150 مليون دولار. قانا.. ثالث الحرمين، ثالث القبلتين وآخر ليالي القدر اختتمنا رحلة اليوم الأول بزيارة موقع مجزرة قانا، التي أعادت فيها إسرائيل بكل وقاحة ما فعلته في سنة 1996، ووجدنا أهلها في حالة حزن كبير، لأن بلدتهم قانا أصبحت مقرونة بكل ما هو بشع يستهدف براءة الأطفال والنساء وحتى الشيوخ العزل، ولم أجد أحسن من تعبير شيّده اللبنانيون في جدارية رمزية وصفت قانا بثالث الحرمين وثالث القبلتين وآخر ليالي القدر.