تحقيق: رشيد فيلالي الباريسية وربط علاقات متينة مع ضيوفها ومنهم (أنظر الصورة) البروفيسور كريستيان برنار الذي قام بأول عملية زرع قلب في العالم في إفريقيا الجنوبية يوم 3 ديسمبر عام 1967 واستفاد منها المريض لوي واشكانسكي البالغ من العمر 55 سنة وظل يعيش بقلبه المزروع مدة 18 يوما قبل أن يفارق الحياة، وقد توفي البروفيسور برنار عام 2001 عن عمر يناهز 81 سنة. ومع مرور الوقت بدأ الشك يراود السلطات الفرنسية بأن هناك من يسرب المعلومات الخاصة بالمفاوضات للطرف الجزائري، وبعد تقصي وتعقّب طويل تمكنت هذه السلطات من معرفة صاحب التسريبات وهي سكريترة برونيه، التي وضعوا بمكتبها ميكروفان خاص للتنصّت عليها وهو الأمر الذي أفضى في النهاية إلى القبض على رشيد تابتي والزجّ به في السجن، لكنه لم يمكث فيه سنوات طويلة حيث أمسكت السلطات الجزائرية جاسوسا فرنسيا هو الدكتور داميان، ونظرا لمكانة هذا الأخير لدى سلطات بلاده، فقد تم استبداله برشيد تابتي إضافة إلى تسعة جواسيس فرنسيين آخرين كان ذلك عام 1973 . وعاد بطلنا المغوار إلى بلاده ليمارس مهنة المحاماة، حيث منحته السلطة شقة محترمة بالأبيار يعيش فيها رفقة أسرته الصغيرة إلى غاية الآن ولم يعد في السنوات الأخيرة قادرا على أداء عمله في مهنة المحاماة بسبب اشتداد المرض وضعف بنيته وذاكرته، حيث يمضي جل يومه في شرب الدواء والنوم. زڤار صديق روكفيلر وممول حملة بوش الانتخابية لقد تضاربت الأقوال فيمن موّل عملية الجوسسة المكلِّفة طبعا، التي نفذها بنجاح وتألق رشيد تابتي، فقد قيل إنها من تمويل شركة سوناطراك، لكن هناك من يؤكد بالأدلة الدامغة أن ممول هذه العملية من أولها إلى آخرها هو الملياردير مسعود زڤار من مدينة سطيف، هذا الرجل الجبار الذي كان من أقرب المقربين إلى الرئيس الراحل هواري بومدين، وقد استطاع أن يحقق ثروة هائلة من خلال المتاجرة وتهريب الأسلحة إبان الخميسينيات، كما اشتغل حسب المهتمين بسيرته في بيع الحلوى ثم صناعتها بالدارالبيضاء في المغرب الأقصى، وكان يطلق عليه هناك اسم رشيد كازا، نسبة إلى كازا بلانكا أو الدارالبيضاء بالإسبانية. مسعود زڤار الذي كان من مجاهدي ثورة التحرير، والذي يطلق اسمه حاليا على ملعب لكرة القدم بالعلمة، وكان وثيق الصلة بكبار الساسة والشخصيات الأمريكية النافذة، حيث نذكر من بين أبرز أصدقائه الحميميين الملياردير روكفيلر، ورئيس المخابرات الأمريكية CIA الرئيس جورج بوش الأب الذي مول زڤار حملته الانتخابية بملايين الدولارات!! بعد وفاة بومدين أدخل السجن عام 1982 ضمن حملة قيل عنها إن الغرض منها محاربة الفساد، وقد عذب في السجن إلى أن أطلق سراحه عام 1985 وهو في حالة صحية متدهورة وبقي على هذا الحال يصارع المرض إلى أن توفي بسكتة قلبية وقيل مسموما بمقر إقامته الفاخرة في ماربيلا الإسبانية. والغريب في الأمر أن مسعود زڤار، الذي كانت ترتعد لذكر اسمه المخابرات الفرنسية لمكانته الخاصة لدى عظماء هذا العالم وأقويائه سيما من الأمريكيين لم تزد نشرة أخبار الثامنة في اليتيمة لحظة اعتقاله ورميه بالسجن العسكري بالبليدة شهر جانفي من سنة 1982 عن بثها لخبر قصير جدا لا يزيد عن سطرين، يعلن فيه أن الملياردير مسعود زڤار ألقي عليه القبض بتهمة تجسسه لصالح المخابرات الأمريكية CIA ولم يزد المذيع عن ذلك كلمة واحدة! وقد قيل إن مدبري عملية القضاء على زڤار ينتمون إلى حزب فرنسا، كون الرجل كان في زمن الرئيس هواري بومدين بمثابة شعرة معاوية مع الأمريكيين الذين مساندتهم صارت أكثر من ضرورية رغم قطع العلاقات الرسمية عقب حرب (هزيمة) عام 1967 مع إسرائيل، على اعتبار أن المواجهة مع فرنسا صارت ساخنة للغاية، من أجل استرجاع كامل السيادة الوطنية، بعد تأميم البترول وإزالة القواعد العسكرية الفرنسية من المرسى الكبير ورڤان. وقد لعب مسعود زڤار دوره كاملا في هذا الشأن، إضافة إلى تمويله لعمليات جوسسة نوعية على غرار عملية رشيد تابتي، والتي أعطت ثمارها المعروفة، فيما كانت البلاد ترزح تحت استعمار مقنع وخبيث، لا يقل فتكا وخطورة عن الاستعمار العسكري. صحيح أن البلاد استرجعت الأرض وحرية شعبها، لكنها في المقابل بتوقيعها لمعاهدة إيفيان الجائرة وإن كان ذلك يمثل مرحلة لابد من اجتيازها، سلمت أعظم ثرواتها لمحتل الأمس ليتصرف فيها مثلما يشاء ويحلو له، حيث أن نصوص معاهدة إيفيان التي ضرب بها الرئيس هواري بومدين عرض الحائط بإعلان قرار تأميم المحروقات، كانت ترهن البترول وخيرات الصحراء للاستغلال الأجنبي وفق امتيازات قانونية تكاد تكون مطلقة، إذ أن التسيير المشترك ومراقبة الصناعة البترولية ببلادنا - حسب نصوص معاهدة إيفيان - تعني بلغة مباشرة وجود إدارة لها سلطة مطلقة أجنبية، يعني فرنسية، تفلت تماما من حكم السيادة الوطنية الموكلة بموجب ذلك إلى الوصاية الخاصة بقطاع البترول. وبناءً على هذا الوضع الشاذ فقد كانت السلطة الجزائرية مكتوفة الأيدي فيما يتعلق بمسألة تصدير الطاقة إلى الخارج، حدث ذلك في الوقت الذي كانت فيه الخزينة العمومية خاوية على عروشها ولا يوجد ما يسد رمق 9 ملايين نسمة عدد السكان في ذلك الحين.. وفي مقابل هذا الفقر المدقع الذي كانت تحيا في ظله البلاد، كانت الشركات الفرنسية المسيطرة على مصادر الطاقة ببلادنا، إضافة إلى ثلاث شركات أجنبية ألمانية وأمريكيتين، لا تدفع للخزينة العمومية سوى ضريبة تكاد لا تذكر، ومن هنا بدأ الإحساس لدى سلطات البلاد برئاسة الرئيس بن بلة بضرورة كسر هذا الطوق الذي يكاد يخنق الاقتصاد الوطني وهو لايزال في طور الحبو، حيث طالب بن بلة بمراجعة الاتفاق الخاص بالمحروقات في معاهدة إيفيان، وتبع ذلك بعملية استغلال حاسي مسعود، وتشييد أول أنبوب لنقل البترول إلى الخارج انطلاقا من ميناء بجاية، لكن سرعان ما أصبح هذا الأنبوب غير قادر على استيعاب ونقل الكميات المكتشفة والمستغلة بعد ذلك من الحقول الأخرى، الشيء الذي دفع بالرئيس بن بلة إلى الدخول في مغامرة حقيقية، هي إنشاء أنبوب جديد ينتهي إلى أرزيو (وهران)، ورغم قلة الخبرة انطلق المشروع بتمويل من الكويت وتنفيذ شركة بريطانية نكاية في فرنسا التي رفضت شركاتها القيام بهذه المهمة رغم اتفاق التعاون الموقع عليه، الشيء الذي جعل السلطات الجزائرية ترفع دعوى قضائية أمام المحكمة الدولية، وهي بالإضافة إلى ذلك ذريعة للتخلص نهائيا من الشركات الفرنسية، لكن انقلاب 19 جوان أبطأ العملية نسبيا، كما سمح بتحقيق انتصارات مهمة في مجال استغلال الطاقة وفق اتفاق تعاون وقع بين شركة سونطراك التي ولدت كأول شركة بترولية جزائرية يوم 31 ديسمبر 1963 ومجموعة ERAP الممثلة في الشركات الفرنسية العملاقة (طوطال، إيلف، وفينا Fina) وانتهى الأمر إلى استغلال مشترك بنسبة 50 / 50. وبهذه الخطوة كانت سونطراك الشركة الرائدة في العالم الثالث التي تعمل على البحث والتنقيب عن حقول الطاقة لصالح شركات كبرى، حيث حققت أول اكتشافاتها بحقل البورما الواقع على الحدود الجزائرية التونسية، مع أن البلاد تفتقر للكوادر الضرورية في شتى المجالات، إذ لا تملك إبان الستينيات سوى 800 إطار جامعي لا يتجاوز عدد المختصين في الهندسة البترولية العشرة، ومع ذلك اجتازت البلاد هذه العقبة بنجاح وصارت، ويا لها من مفارقة، تصدر إطاراتها مع البترول والغاز إلى الخارج!. أما بعد... من يتذكر رشيد تابتي؟ والآن عود على بدءٍ ولنسأل من يتذكر رشيد تابتي الذي يعود له ولأمثاله من الأبطال المغمورين في الظل الفضل الكبير في »البحبوحة« المالية التي تعيشها البلاد اليوم؟ وهل سيكرمه الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بإعادة الاعتبار له كما أعاد الاعتبار للعديد من الشخصيات الجزائرية المناضلة التي تم إقصاؤها بطريقة أو بأخرى على غرار مصالي الحاج وعبان رمضان وحتى واضع اللبنات الأولى للدولة الجزائرية المعاصرة الأمير عبد القادر الجزائري وكل هؤلاء وغيرهم اتهموا بالخيانة العظمى قبل أن يتم تبرئة ساحتهم، ويعود إلى الواجهة التاريخية، فيما يبقى العديد من المناضلين الآخرين على الهامش، يتآكلهم الإحساس بالغبن والحسرة القاتلة، والشعور بنكران الجميل ممن يفترض فيهم على الأقل السؤال عنهم والتفاتة طيبة تقدر مدى أهمية وعظمة النضال الذي قدموه لهذا الوطن، حين فدوه بأرواحهم بصدق وحماس بالغين، سيما إذا كان هؤلاء مازالوا على قيد الحياة، فتكريمهم بعد مماتهم ضعيف التأثير، ولا نقصد بالتكريم هنا المادي بقدر ما هو معنوي يعيد البسمة لهم ويشعرهم بأن الذي قدموه للبلاد أتى ثماره الطيبة ولو بعد عشرات السنين.. إن رشيد تابتي اليوم، البالغ من العمر 76 سنة، يعيش بمنزله مريضا بالباركنسون، يتحدث بصعوبة بالغة ويسير بصعوبة أشد، خاصة بعدما أنهكه المرض والمضاعفات الثانوية للدواء المهدئ الذي يتناوله بانتظام، وقد زاد في غبن الرجل الإقصاء الذي يعيشه منذ سنوات، بالرغم من التضحية الكبيرة التي قدمها وهي على حد تعبيره واجب لابد منه ويفتخر بأنه اختير له دون غيره، لكن أن يهمش ولا يذكر اسمه ولا يشار إليه في المراجع التاريخية ولو بشكل عابر، فإن في ذلك ظلم ما بعده ظلم. ويأتي هذا التحقيق الذي ولد بالصدفة في الحقيقة، ليقدم وردة حب للرجل متمنين أن تكون "الشروق اليومي" فاتحة ومقدمة لرد الاعتبار له ولغيره من أبطال الجزائر المنسيين.