سجلت مبيعات محلات الأثاث المنزلي، تراجعا كبيرا خلال الأشهر الأخيرة، بسبب ندرة مادة الخشب بالسوق المحلية واللجوء إلى الدول الأوربية، لتلبية حاجيات السوق الوطنية، بالمادة الخام أو حتى الأثاث الجاهز، لتبقى أسعار هذه الأخير رهينة أسعار السوق العالمية، التي أحكمت سيطرتها على أسعار العديد من المواد التي ألهبت جيب المواطن البسيط، الذي لم تعد ميزانيته تتحمل جنون الأسعار، ليجد ضالته بمحلات بيع الأثاث القديم، التي انتعشت تجارتها مؤخرا بشكل كبير جدا، بعد أن استثمرت وبشكل عقلاني جدا في حاجة المواطن، خاصة وأنها تقدم بضاعة، خشبها من أجود أنواع الخشب وبأسعار في المتناول، ما كبد النجارين وتجار الأثاث الجديد، خسائر فادحة جعلت الكثير منهم يغلقون محلاتهم ويطلقون المهنة. تولى العائلة الجزائرية، أهمية كبيرة لتجميل بيتها وتأثيثه خاصة، بعد أن أصبحت السوق الجزائرية تعج بمختلف البضائع التي تعرضها المحلات التجارية المتخصصة في مثل هذه السلع والتحف التي دأب تجار الخشب على تقديمها للمواطن، بتصنيع ما يحتاجه المواطن من موديلات ونماذج، خاصة إن كانت محلات الأثاث الجاهز لا تتوفر على ما يناسب ذوقه. بين المنتوج المحلي والمستورد..المواطن سيد الاختيار محلات كثيرة تزخر بسلع من كل الأنواع والأصناف، يكون فيها خشب الغابات الجزائرية، الذي يتمتع بسمعة كبيرة، مادتها الأساسية وما دعم أكثر انتشار هذه السلع، القدرة الشرائية للمواطن والتي كانت -عكس ما هي عليه اليوم-، تساعده كثيرا على اقتناء ما يريد وبأسعار معقولة، فتجهيز البيت أو غرفة النوم، لم يكن في السابق يقتصر فقط على من يؤسس بيتا جديدا، كما هو الحال بالنسبة للعريس، بل إن الكثير من العائلات كانت تتفنن في تغيير أثاث بيتها ومواكبة أحدث ما يطرحه السوق من موديلات جديدة، خاصة وأن الكثير من الأثاث، أصبح عبارة عن تحف فنية، مزركشة بأروع الرسوم وأجمل الزركشات والتصاميم، المستنبطة من الخط العربي الجميل بمختلف مذاهبه وما زاد جمالها أكثر آيات القران الحكيم وأحاديث الحبيب المصطفي التي زينت واجهاتها، أثاث مصنوع من أجود أنواع الخشب، خاصة الخشب الأحمر وخشب أشجار البلوط التي يحافظ على جماليته وجودته مهما تعاقب على السلعة من سنين، جمال ساحر أصبح يستهوي الكثيرين، خاصة من العائلات الميسورة، فابتياع الأثاث لم يعد يقتصر على الضروريات فقط من خزانة وسرير، بل كل أنواع الأثاث، الذي يصنع الفرجة ويزيد جمال الديكور، كما تفعل كل الإكسسوارات، أصبح مطلوب ولا يمكن الاستغناء عنه مطلقا، بعدها زاد الاهتمام أكثر بالأثاث مع تحرير السوق ودخول البضائع الأجنبية التي استقطبت اهتمام المواطن أكثر، فالمستورد خاصة الجاهز الذي حمل الجديد خاصة في التصميم والشكل المبدع، أصبح يزاحم الصنع المحلي ويتفوق علية في بعض الأحيان، فالخشب بالجزائر -خاصة أجود الأنواع منه- أصبح يشهد ندرة كبيرة ما جعل أسعاره تقفز إلى أعلى الدرجات ومعها أصبح التاجر، يفضل المستورد على المحلي الذي يكلفه كثيرا ولا يحض بالثقة التي يحض بها القادم من وراء البحار، ليكون المواطن وحده سيد الاختيار، فكل ما يشتهي موجود وكل ما يرغب فيه متوفر وهو وحده من يختار ما يلائم قدرته المعيشية ويتوافق مع إمكانات جيبه. الخشب الأحمر سيد الخشب..وإيطاليا مقصد التجار كثيرة هي أنواع الخشب، التي تدخل في صناعة الأثاث المنزلي والتي تختلف أسعارها من نوع إلى آخر، تبعا لمعيار الجودة وما يتمتع به كل نوع من مزايا، كما هو معمول به في مختلف البضائع، قادنا الفضول، لزيارة بعض النجارين الذين امتهنوا الخشب، منذ سنين والذين أصبحت تربطهم به علاقة خاصة جدا، جعلتهم يجيدون كثيرا الحديث معه، لتكسر نقوشه وتصاميمه، ما ظل لزمن طويل سائدا بأنه لغة جافة، كما هو الحال مع عمي محمد، الذي له باع طويل في هذه المهنة والمعروف على مستوى ولاية المسيلة، بإتقانه الكبير لعمله، فهو كما يؤكد فن قبل أن تكون مجرد لقمة عيش، لذا يصر عكس الكثير من النجارين على استئصال جزء الخشب الذي يكون في شكل دوائر والمعروف في لغة أهل المهنة ب«المعزة»، لأنه يتآكل مع مرور الزمن ويشوه كثيرا منظر قطعة الأثاث ورغم سوء حال تجارته مع الظروف الجديدة، التي أصبح الزبون يفضل معها وجهة أخرى، فهو يصر على مواصلة المسيرة للنهاية، وتبعا لخبرته، يؤكد أن الخشب الأحمر هو أجود أنواع الخشب على الإطلاق، نظرا لجودته الكبيرة ومقدرته الفائقة على تحدي الزمن، لذا فهو يتصدر قائمة طلبات الزبائن، إلى جانبه يوجد أيضا الخشب الأبيض وهذان النوعان موجودان بالجزائر، لكن بكميات غير كافية، لذا يتم استيراد كميات كبيرة من دول أوربا، خاصة من إطاليا وأجود أنواع الخشب يتم الحصول عليها من شجرة البلوط أو ما يعرف بخشب «الشان»، نوعان يتفق أغلب النجارين الذين تحدثنا إليهم على جودتهما، لكن المؤسف أن هذا النوع من التجارة، لم يعد يعيش أزهي أيامه، فنادرا ما يشتغلون من غير فصل الصيف الذي تعرف به تجارتهم نوعا من الحركية، بسبب الإقبال على طلب تصنيع لوازم غرفة النوم المخصصة للزوجين، أما دون هذا الفصل، فهم بالكاد يحصلون ثمن الإيجار والضرائب، وحتى من يقصدهم من زبائن، فلأجل تصنيع نوافذ أو أبواب المنازل أما الأثاث، فالبعض يفضل الأثاث الجاهز والمستورد، أما الأكثرية التي كثيرا ما يخونها جيبها، فتفضل الأثاث القديم، خاصة أن أصحاب هذه المحلات يمنحونهم الكثير من الامتيازات، فالأمر لا يتوقف فقط عند الأسعار المعقولة والقابلة للتفاوض، بل يمنحون المواطن حق المقايضة واستبدال سلعة بأخرى، وحتى التسديد بالتقسيط. كساد في الجديد المُكلف..ورواج للقديم المجمل باعتراف أهلها من نجارين وتجار، تشهد تجارة الخشب إجمالا والأثاث خصوصا، تعاني الكثير في الآونة الأخيرة، خاصة مع العجز الكبير الذي أصبحت تسجله ميزانية المواطن التي لم تعد تتحمل حتى الضروري من المواد الغذائية، فما بالك بأسعار الأخير التي أصبحت مكلفة كثيرا، فالمحلي باهض الثمن، لأن مادة الخشب لم تعد بالوفرة التي كان عليها، خاصة مع السعي الحثيث، لمديريات الغابات عبر مختلف الولايات، لحماية الثروة الخشبية التي تراجعت في السنوات الأخيرة، بفعل الحرائق التي تأكل كل صيف الكثير منه، ناهيك عن القطع العشوائي للأشجار من قبل المهربين وغيرهم، أما المستورد فهو الآخر باهض الثمن، بسبب تكاليفه الكثيرة وبسبب الزيادات التي سجلتها الأسواق العالمية، ليجد التاجر نفسه يعاني في الكثير من الأحيان من كساد السلع التي انصرف عنها المواطن البسيط الذي يمثل السواد الأعظم من المجتمع، فزبائن الكثير منهم، أصبحوا يقتصرون على العرسان الجدد، الذين يحضرون لزفافهم ويريدون أثاثا، لغرف نومهم الجديدة، التي تعد أحد الضروريات، فأي عروس لا ترضى بالدخول إلى بيت زوجها دون أثاث متكامل لغرفة النوم، ليزيد هم تجار الأثاث المنزلي أكثر والذين لم يكونوا أحسن حظا من النجارين، حيث اضطر الكثير منهم لغلق محلاتهم التجارية، بعد أن انصرف عنهم الكثير من الزبائن، بالمقابل ازدهرت وبشكل كبير جدا محلات بيع الأثاث القديم التي يبيع فيها التجار، هذا النوع من الأثاث، بعد أصلاحه وطلائه بمادة خاصة بالخشب تكسبه بريقا خاصا يصبح معها جديد، ومع الإقبال الكبير للمواطن، انتعشت سوقه بشكل كبير جدا، فحتى العرسان أصبحوا يفضلون هذا النوع من البضائع، خاصة وأن الكثير منه مصنع من أجود أنواع الخشب وأسعاره معقولة جدا لا فروق كبيرة بينه و بين النوع الجديد، فمحلات هذا النوع من الأثاث الذي يشتري القديم من المواطن وبأسعار رمزية في الكثير من الأحيان أو يقايضون ما عندهم بنوع وما يشجع المواطن أكثر على اقتنائها، رغم أنها قديمة، غلاء سعر الجديد، فمن الصعب اقتناء قطعة من الأثاث الجيد والتي يصل ثمن الكثير منها إلى الملايين، فالمهم عند المواطن، أن هذا النوع رغم أنه قديم، جودة خشبه تضمن عمرا أطول والأهم أن أسعاره معقولة، وأنت تتنقل بين هذا النوع من المحلات تلمس إقبالا كبيرا من المواطنين، خاصة النساء المولعات بتجميل بيوتهن، فقلما تجد رجلا إلا و كان مرفوقا بخطيبته أو والدته، لاختيار أثاث غرفة النوم، حديثنا مع بعض المواطنين، أبدوا فيه رضاهم التام على نوعية السلع وحتى أثمانها، فهي قد تصل إلى ثلث ما هو موجود بالمحلات التجارية، أسعار مغرية جدا تمكن المواطن البسيط من تأثيث منزله، من جهتهم أبدا التجار رضاهم الكبير على تجارتهم التي تدر عليهم أرباحا لا باس بها، بعد أن أصبح المواطن يثق في ما يقدمونه، فهم حريصون، كما يؤكد أحدهم على بناء سمعة طيبة، فلا يمكن أبدا شراء إلا الأثاث الذي لا يزال على قدر كبير من الصلاحية، كما يحرصون على العناية بطلائه، نعمة يعيشها هؤلاء، لكنها في واقع الأمر نقمة على تجار الأثاث الجديد، الذين يعانون الأمرين، فالأثاث القديم قطع رزق الكثير منهم، بعد أن سرقت باقي المحلات زبائنهم، فكما يؤكد احد هؤلاء التجار، أن تجار الأثاث القديم يحققون في الكثير من الأحيان مكاسب خيالية، فهم يشترون البضائع القديمة بأسعار منخفضة للغاية ويعيدون بيعها بالضعف على العكس مما يحدث معهم، فأسعار الخشب تتحكم فيها السوق ولا يمكن البيع بالخسارة، ليبقى الوضع مفتوح على مزيد من المعاناة كما يؤكدون، ما لم تتدخل الدولة لحمايتهم وتدعم أسعار الخشب، كما تفعل مع الكثير من السلع الأخرى . فالسوق الجزائرية، التي لم تكن قبل اليوم تسير إلا بمنطق العرض والطلب، أصبحت اليوم تخضع للعديد من المفاهيم، التي يبلورها الربح السريع وتصنع مضامينها الحاجة، فالمواطن الذي بات شبح الأسعار يرهبه من الدخول إلى السوق، أصبح يبحث عن بديل، أسرع بعض التجار في إيجاده، ليستفيدوا ويفيدوا، فبعد الذهب المزيف الذي أنقذه من مخالب الذهب الخالص، ها هو الأثاث القديم بدوره يستهويه ويأخذه بالأحضان، لا لكون الجزائري زبون غير ذواق أو بخيل في الإنفاق، بل لأن ظروفه الاقتصادية هي من يسير اختياراته.