تقول الحكاية كما ترويها هذه المفردات.. وكما توحي بها الأشكال والعناصر والأجواء: - منذ أن وعيْت على هذه الدنيا وأنا أقتات من حجارةٍ بسيطةٍ أو قبضات من طين. - أصنعها على شكل تماثيل صغيرة ولعب متنوعة. - أصبّ فيها خلاصة جهدي.. - وأضع فيها زبدة مشاعري، وأُلبسها جواهر النفس والفن. - كان هذا العمل يجلب لي سعادة غامرة، ويُحقّق لي مآرب شتى: - حيث كنت، بفضله، أسعِدُ الأطفال على اختلاف أعمارهم، وعلى تنوع طِباعهم وأمزجِتهم.. وأدخِلُ عبْر هذه المنحوتات إلى قلوبهم الصغيرة البريئة البهجةَ والسرور. - وكنت من جهة ثانية، أرسم بريشة الفؤاد على الصخور الصماء.. - وأعزف بأوتار الروح على الطين الرطبِ لوحات إنسانية بديعة.. تنطق بمشاعر الحبور.. أسامِر بها مفردات الكون.. وأتحدث من خلالها بلغةٍ تسع الفهم والذوق والحدس والإدراك.. - كانت هذه هي لغتي المفضلة من بين لغات الوجود.. - أتعامل بها في عالم خاص تتطاول معانيه على سفريات الزمن المتراخي.. وتتسع دلالاته لما هو أرحب من الوجود الممتد الشاسع. - وكنت في الأخير، أوفّر بفضل ما أتحصل عليه من هذا العمل جزءا يسيرا أدّخره لتأثيث منزلي المقفر، وإعداده وتحسينه، وتدعيمه باللوازم والحاجيات. - وأوفر ما يجب وما يليق ببيتٍ سيستقبلُ، ولا بد من ذلك إن شاء الله، عروسا، ستفِد من وراء سنين العمل والمشقة. * * * - كانت تماثيلي التي كنت أنحتها أعز ما أملك في هذه الدنيا.. - بل كانت هي الدنيا. - فهي ظلالي التي أفيء إليها إذا اشتدت عليّ سقامُ الحياة.. أو لفحتني نيران الأحزان.. أو مزّقت عزيمتي سياط اليأس.. - وهي نفسي التي أبوح لها بأشواقي.. وأصارحها بمثالبي.. - وهي روضتي التي تفتح نافذة كياني على أطياف الجمال، ودلائل الإبداع.. - وهي أيضا واحتي التي تُقيلني، وتنأى بي بعيدا عن هجير السجايا الملوثة..كما تجسدها بإتقان بعض الصور الآدمية التي تتكاثر في الأيام العجاف.. ويعتبر "سي مخلوف" من أصدق وأقوى الأمثلة على هذه الحثالة المشوهة، التي ما فتئت أعدادها تتكاثر في مستنقع الأيام. - يَدلّ مظهر سي مخلوف الناعم الرزين على وفرة ماله، وربما على صلاح غير مؤكد.. - على عكس ما تضمره حقيقته المخبأة وراء المظهر. * * * - لا زلت أذكر ذلك اليوم الذي تقدمت فيه لخطبة ابنته. - بالطبع، تقدمت بعد أن أيقنت بأنني أستطيع تحمل مسؤوليات وأعباء الزواج.. - كنت في ذلك اليوم في قمة تأنقي. - لقد أنفقت قدرا معتبرا من المال لشراء ملابس خاصة تليق بذلك اليوم "التاريخي" العظيم.. ! - نعم.. كان ذلك اليوم يوما عظيما بالفعل، بالنسبة إليّ على الأقل. - وكيف لا يكون كذلك؟ وقد اجتهدت كثيرا حتى أظفر بذات الأخلاق والجمال.. - كم حكمةٍ قلتها ذلك اليوم.. !! -كم كلمة ألبستها حللاً بديعة، ورصعتها بالسجع والأمثال وحتى الأساطير !! ولكن بعد أن نفد مخزون الألفاظ.. وجفّت ينابيع المفردات انقطع عقد الكلام، وخيّم سكونٌ حرجٌ.. ..وبعد برهة من الزمن، مزقت أستار الصمت برويةٍ، وقلت لمضيّفي بنبرة المُحرج المتشبث بأيِّ شيءٍ لتفادي التدحرج والسقوط: - والله يا عمي مخلوف.. أنني أشعر بسعادة غامرة عندما أتحدث إلى رجل في مثل منزلتك..