اختزلت فرنسا قضية التأشيرة التي تثير مزيدا من الجدل وتهدد استقرار العلاقة مع الجزائر، وقد جاءت التبريرات التقنية التي قدمها المتحدث باسم وزارة الخارجية الفرنسية «برنار فاليرو» لتؤكد المتاعب التي تعاني منها هذه العلاقة التي لم تتعاف بعد من فتور دام فترة طويلة. الحديث عن التقدم الحاصل في المفاوضات الجارية بخصوص تعديل اتفاقية سنة 1968 التي تنظم وضع الجزائريين في فرنسا لا يتقاسمه البلدان، فقد كانت وزارة الخارجية قد اعتبرت أن الإجراءات التمييزية التي تتخذها فرنسا بخصوص التأشيرة تهدد مستقبل المفاوضات القنصلية بين البلدين، في حين يقول «فاليرو» إن هناك تقدما على هذا المستوى. وليست هذه هي المرة الأولى التي ترد فيها فرنسا على الانشغالات الجزائرية بإجابات تقنية، فقد فسرت إدراج الجزائر ضمن قائمة الدول التي يخضع رعاياها لإجراءات مراقبة مشددة في المطارات الفرنسية، بالقول "إن الإجراءات الأمنية المشددة التي أقرتها فرنسا في مطاراتها، والتي تشمل الجزائريين، ليست موجهة ضد شعب أو رعايا دولة معينة، وأن ''فرنسا لم تتخذ أي إجراء حيال هذا الموضوع المهم لوصم أي دولة أو شعب''، غير أن الأمر لم يكن بتلك البساطة، بل إن الردود من هذا النوع كانت تفهم من قبل الجزائريين على أنها إصرار على المواقف، وعندما تصف باريس الإجراءات التمييزية بأنها إجراءات تفضيلية، وتضيف بأن لوزارة الداخلية رأي في منح التأشيرات وعددها، فإنها تريد أن تبلغ الجزائريين بأنها لا تفكر في إلغاء تلك الإجراءات. وإلى حد الآن لم تتراجع باريس عن بعض القرارات التي أثارت خلافا حادا بين البلدين وفي مقدمتها قرار إدراج الجزائر ضمن الدول التي يخضع رعاياها لإجراءات رقابة مشددة لدى دخولهم التراب الفرنسي، ورغم أن الولاياتالمتحدة عدلت إجراءاتها الأمنية وألغت قائمة مماثلة فإن فرنسا أبقت على القائمة غير أنها حرصت على جعل تلك الإجراءات غير مرئية في المطارات والموانئ الفرنسية، والمسألة التي تطرح هنا هي إمكانية اللجوء إلى تلك الإجراءات المشددة في فترات الأزمة إن تطلب الأمر ذلك. وفي منتصف الشهر الماضي كان كاتب الدولة المكلف بالجالية الجزائرية «حليم بن عطاء الله» قد صرح بأن الجزائر ستطلب توضيحات من فرنسا بخصوص التصريحات التي أطلقها وزير الداخلية الفرنسي «بريس هورتوفو» بخصوص تشديد إجراءات منح التأشيرات قصيرة المدى لرعايا بعض الدول ومن ضمنها الجزائر، وقد جاء التصريح ردا على ما قاله وزير الداخلية الفرنسي في معرض حديثه عن الإجراءات الجديدة التي ستتم مناقشتها في ندوة تعقد مع قناصلة فرنسا في الخارج في شهر فيفري المقبل، حيث اعتبر أن التأشيرة قصيرة المدى يجب ألا تتحول إلى تأشيرة للهجرة السرية، وقد أشار المسؤول الجزائري في ذلك الحين إلى أن التنقل إلى أوروبا يبقى حقا لمواطني الدول المغاربية. ويمثل وزير الداخلية الفرنسية «بريس هورتفو» أحد الوجوه اليمينية المتشددة في الحكومة الفرنسية، وكان حديثه عن التأشيرة ذو صبغة سياسية، ومن الواضح أن التعليمات التي تنفذها الآن القنصليات الفرنسية لها صلة بالموقف الذي أعلنه، وأكثر من هذا يبدو واضحا أن هناك ميلا إلى توظيف الموضوع سياسيا من خلال إقحام الجزائر في الانتخابات الفرنسية التي يجري الاستعداد لها من الآن، حيث ينازع اليمين الحاكم بقيادة «نيكولا ساركوزي» اليمين المتطرف وعاءه الانتخابي من خلال تبني مواقفه المتعلقة بالمهاجرين، حيث يجري التأكيد على أن تفاقم مشكلة البطالة في فرنسا سببه تدفق المهاجرين الذين يشغلون مزيدا من الوظائف على حساب أبناء البلد مع ما في هذه الادعاءات من مغالطات. القضية الأخرى التي ركزت عليها الإجراءات الجديدة تتعلق بالتغطية الاجتماعية، وهنا أيضا يبدو اليمين وكأنه يلعب على وتر حساس لدى الفرنسيين، باعتبار أن التغطية الاجتماعية وكلفة الرعاية الصحية تعتبر من أهم القضايا التي تشغل الفرنسيين، وهذا الموضوع بالذات كان من بين الأسباب التي حركت احتجاجات واسعة في فرنسا خلال الأشهر القليلة الماضية وأدت إلى شل النشاط في البلاد من خلال موجة إضرابات غير مسبوقة. القضايا الاقتصادية والاجتماعية التي يريد اليمين ربطها بالهجرة تضاف إلى مسألة الهوية التي كانت الورقة الأساسية في الحملات الانتخابية السابقة لساركوزي وحزبه، فبعد أن تم استهلاك قضايا الحجاب والنقاب والإسلام، وبعد أن فشل النقاش حول الهوية الوطنية وانزلق إلى تعليقات عنصرية ومواقف مشينة ومسيئة إلى فرنسا أصبح من الضروري البحث عن مسألة أخرى لتجنيد الناخبين الفرنسيين، وقد جاءت الاحتجاجات الأخيرة كرسالة إلى «ساركوزي» تفيده بأن أولوية الفرنسيين هي فرص العمل والتغطية الاجتماعية وليس الجدل حول الأصول والعقائد، وربما لم يجد اليمين أفضل من ربط هذه المواضيع بالهجرة ليسهل تسويقها ضمن خطاب قومي يقوم على الفخر بالانتماء بدل البحث عن بدائل حقيقية للاستجابة للتحديات على كل المستويات. بالنسبة للجزائر سيكون هذا الاستغلال السياسي لقضايا الهجرة سببا آخر في تأخير إصلاح العلاقات الجزائرية الذي قد ينتظر إلى أن تضع الحروب الانتخابية أوزارها.