المثقفون لم يصنعوا الثورة التونسية كما كان يؤمل، ويبدو أنهم مرتبكون أمام نتائجها. حمى الانتقام وتصفية الحسابات بدأت تعصف بهم، فهل يخفقون بسبب خلافاتهم في الوقوف إلى جانب شعبهم مرة أخرى؟ هذا ما يحاول أن يجيب عنه التحقيق التالي. بدأت الحكاية يوم 17 ديسمبر الماضي، يوم صادرت السلطات التونسية عربة خضار للشاب محمد البوعزيزي. هذا البائع المتجول ذو ال26 عاما وخريج الجامعة، ظل يبحث لسنوات عن فرصة عمل تليق بمستوى تعليمه ولم يجد. ومثل الملايين من الشباب التونسي، قرر امتهان مهنة شريفة تكفيه قوت يومه: بيع الخضراوات والفواكه. لكن السلطات في ولاية سيدي بوزيدالتونسية، ظلت تلاحقه وتمنعه من العمل بدعوى أنه لم يحصل على التصريحات البلدية المطلوبة. اغتاظ الشاب وراح يشتكي للمصالح البلدية التي صدته وأهانته. وما كان من البوعزيزي إلا أن أشعل النار في جسده احتجاجا، وتوفي في اليوم التالي، حسب والدته. لكن السلطات صرحت بوفاته بعد أسبوعين، خوفا من الفتنة، خاصة أن الحادثة تبعتها ثلاث حالات انتحار أخرى بسبب تردي الأوضاع بكامل أنحاء البلاد. ولكن البوعزيزي لم يحرق نفسه بسبب الجوع بل بسبب صفعة موظفة البلدية التي ذهب يشتكي لها فأهانته وسخرت منه. سرت نار الغضب من جسد البوعزيزي إلى قلوب كل التونسيين المقموعين والباحثين عن مورد رزق. هكذا نرى أن ثورة 14 جانفي 2011 هي ثورة الشعب التونسي بقيادة شبابه. لم تكن مؤطرة بأحزاب سياسية، أو إنتلجنسيا ثقافية؛ بل هي التي حررت الكتاب والفنانين وأطلقت قيودهم. كانت ثورة عظيمة لا تشبه إلا نفسها، ومع ذلك، فقد انبث في صفوفها (ودماء الشهداء لم تجف بعد) بعض المثقفين الانتهازيين ممن يريد أن يركب الموجة ويسرق الانتفاضة وينسبها إلى نفسه، من ذلك لقاء اتحاد الكتاب التونسيين الذي انعقد في الأيام الأولى للثورة وتحول إلى اشتباكات بالأيدي بين بعض الكتاب لتصفية بعض الحسابات الخاصة والمطالبة بإسقاط هيئة الإدارة الحالية من طرف نقابة الكتاب التي انشقت عن الاتحاد وكونت لنفسها اتحادا آخر ضمن نقابة الاتحاد العام التونسي للشغل قبل أشهر. علما بأن رئيسة اتحاد الكتاب السابقة قد أجبرت على الاستقالة بسبب سحب الثقة منها كونها ناشدت الرئيس المخلوع الترشح إلى مدة نيابية مقبلة وورطت الكثير من الكتاب معها، هذا غير تجاوزات أخرى كشفتها الصحافة.من جهة أخرى، نادى كثير من الكتاب في هذا اللقاء إلى لم الشمل وتجاوز الحساسيات وعقد مؤتمر استثنائي بدل الخلع التعسفي للهيئة. وفي اعتصام المثقفين في قاعة «الفن الرابع» بالعاصمة، طالب المسرحيون بتجميد مهام السيد محمد إدريس ووضع اليد على كل الوثائق حتى لا يتم إتلافها كما يحصل في عدة مؤسسات الآن، وذلك لتورطه في صفقات مشبوهة مع بعض أفراد العائلة الحاكمة السابقة، حسب ما جاء في بيانهم. وقد منع إدريس من الدخول إلى المسرح الوطني مع المتصرف المالي فريد العلمي خوفا من التلاعب بالوثائق والأموال. كثير من المؤسسات الثقافية باتت تنادي بطرد مديريها لتورطهم مع النظام السابق وتصفي في ما بينها حساباتها وتتعالى أصوات آخرين من المثقفين للمزايدات وادعاء البطولات وكيل التهم لمن تعامل مع النظام من بعيد أو قريب في هستيريا لا تبقي ولا تذر. * الناقد والروائي فوزي الديماسي: الانتفاضة حررت المثقف * الانتفاضة التونسية، كانت مفاجئة للعالم كله، بمثقفيه وسياسييه، كانت لحظة مفصلية في تاريخ شعب بأكمله، وقد أربكت الجميع؛ إذ لم تكن الانتفاضة صنيعة أحزاب سياسية أو هيئات عمالية، ولم تكن سليلة تحرك المثقفين والنخبة. فالشعب بتحركه العفوي هذا كان مصداقا لقول الشابي إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر ولكن لا ننكر مساندة المحامين ودعمهم لهذا التحرك في ما بعد والاتحاد العام التونسي للشغل بكل إطاراته وكوادره والمثقفين على اختلاف توجهاتهم. إنها هبة الكرامة والحرية بدأت مطلبية وانتهت سياسية، وكل ساهم فيها من موقعه، ومن أفضال هذه الانتفاضة التي لا ينكرها أحد هي تحرير المثقف من سلاسل الخوف الذاتي والموضوعي، وتحميله أمانة المحافظة عليها من السرقة، كما للمثقف دور منهجي اليوم في فرض خطاب العقل والحكمة كما السياسي بعيدا عن حديث التشفي وخطاب الجهويات المقيت الذي كاد يرهق الانتفاضة ويجنبها الصواب، ونعني به في هذا الباب أهدافها الكبرى التي تتمثل في فرض الحرية والتعددية وثقافة الاختلاف في كنف الاحترام المتبادل والتعود على الخطاب المغاير، والقبول بالغيرية الثقافية والسياسية.. فعلا الانتفاضة كشفت عن ضعف الطبقة المبدعة والمثقفة لكنها لم تبعدهم؛ إذ دورهم الرئيسي ابتدأ الآن وهنا في فرض خطاب العقل والعقلانية. * المسرحية سامية بن حسين: على المثقف أن يلمع صورته * نعم الشعب بكل مكوناته سحب البساط من تحت قدمي المثقف وقال ما لم يجرؤ المثقف على قوله وفعله. كان المثقف، أو لنقل الأغلبية مستقيلة من مهامها مستسلمة إلى مصيرها قابلة للوضع وحتى إن عبرت أقلية ونادت بالحرية يتم قمعها أو سجنها أو تمييعها. اليوم يحاول المثقف استرداد حريته وكرامته مستمدا شرعيته من الشارع التونسي ومن ثورة لم يؤسسها، لكنه مطالب الآن أن يساهم في حمايتها ومساندتها بكل ما أوتي من قوة. لا بد أن يلمع المثقف صورته ويترك لنا انطباعا جيدا في مساهمته الفعالة في صنع القرار والتخطيط للغد واختيار مصير البلاد. * المسرحية رجاء بن عمار: كنا نمارس عملية جلد ذاتي على أنفسنا * كنا في عملية جلد ذاتي، مقطوعي الصلة بعضنا ببعض، بفعل حواجزهم. ليس هناك تواصل بين الناس لأنهم كونوا ثقافة موازية وشركات موالية لهم تبث ثقافتهم وتبث الصورة التي يريدونها ويروجون لها. وهم لا يعرفون أنه نشأت صورة أخرى وثقافة أخرى وثورة داخلية، أهم مواقعها «فيس بوك»، ما يروجه «مغنو الراب»، والأفلام التي ينتجها سينمائيون من دون مقابل عن البطالة والفقر والظلم في توزيع الثروات، في حلقات لا تتجاوز الربع ساعة. * الكاتب محمد عيسى المؤدب: المثقف كان خارج خط النار * أكبر المتفائلين، لم يشر بأي شكل من الأشكال إلى عصيان أو احتجاج. الانتفاضة كانت مباغتة. الشعب التونسي كان متوترا والشارع كان يغلي كالمرجل. المثقف، كان خارج خط النار صامتا ومراقبا، ثم بدأت فرقه تتوافد على الشارع. كانوا مذهولين حقا ومكبلين، وأغلب المثقفين في تونس هم من الموظفين. الشعب فعلا سحب بساط الاستشراف والتأسيس من رهانات المثقف. المثقف مدعو إلى تحمل مسؤوليته: أولا: بتأطير الانتفاضة وحمايتها من الانزلاق في مخاطر العنف والفوضى. ثانيا: بالانخراط الجدي في شتى أشكال الإبداع متسلحا بمبادئ الانتفاضة من دون إقصاء والوفاء لقضايا الشعب. ثالثا: التصدي لكل أشكال الاستعلاء والانشقاق والتشفي بما يسيء لرسالة المثقف إزاء الشعب خاصة. فالانتفاضة، تهدي للمثقف دورا رياديا لدعمها وتعميقها والدفاع عنها، فهل يقدر أن يكون أمينا مع ذاته؟ * الشاعرة خيرية بوبطان: الحلم ظل سجينا * المشكلة أن المثقف العربي في العصر الحديث وجد نفسه محاصرا داخل مرأب فكري ضيق منذ البدء: حلم كبير، لكنه ظل سجينا بين نموذجين جاهزين؛ الأول السلفي، والثاني الغربي، مما أنتج أرضا هشة يكثر فيها الكلام والنقل والتمجيد والكثير من السب والشتم. وهو مما أدى تدريجيا إلى إحداث قطيعة رهيبة بين المثقف وميدان عمله الأصلي، أي الواقع، ثم بينه وبين السلطة السياسية. والأسوأ هي القطيعة بينه وبين نفسه حين ينضوي تحت جناح هذه السلطة ويصبح واحدا من وسائلها القمعية. لعلنا نرى ذلك بوضوح من خلال التجربة التونسية اليوم فهذه الانتفاضة لم تطح برأس ديكتاتور فحسب، وإنما جرفت الكثير من المسلمات، لعل أبرزها تحطيم الأبراج العاجية للكثير من المثقفين؛ إذ وضعتهم أمام حقيقة صارخة بأن الوعي الجمعي له أن يسبق في الفعل الوعي الفردي أو وعي المثقف. طبعا لا يمكن القول إن ذلك حدث من فراغ. فهذا الشعب الذي نتحدث عنه ليس رعية أو غوغاء خرجت من الجوع أو البطالة وإنما هو شعب يمتلك آليات الوعي الحديث سواء لمستواه العلمي أو لامتلاكه هذه الثقافة الإعلامية التي منحته القدرة على قراءة محيطه. غير أن هذا الوعي الشعبي وإن كان يحسب له خروجه التلقائي أو كما يقال من دون «رأس» بمعنى من دون مثير آيديولوجي، فإنه يظل يسير في الفراغ عند حدود مطالبه العاجلة بالتغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي، من دون الاهتمام بما ستؤول إليه هذه التجربة على المدى البعيد. وعلينا أن نفهم اليوم أن لا مجال لفكر لا يمتلك ناصية المستقبل البعيد. لا بد من تضافر كل الجهود لبناء مشروع فكري مستقبلي يؤسس لحياة هذه المجتمعات لمائة عام على الأقل.. لا بد من أن نقطع اليوم مع تلك الرؤية الضيقة لخطة خماسية أو عشرية تضمن تغييرا جذريا في العمق. * الشاعر والإعلامي صالح السويسي: محاكم التفتيش * بعد انطلاق الانتفاضة بدقائق فتح المثقفون محاكم التفتيش ونصبوا المشانق بعضهم لبعض، وبدل أن يكون المثقفون في مقدمة الصفوف، انطلقت أقلامهم تحبر حكايات التخوين. لم أستغرب شخصيا ما حدث بين كتاب تونس من ممارسات تشي بكثير من قلة الثقة بينهم وعدم وفاق، مما يدل عن توتر كبير في علاقات الكتاب بعضهم ببعض على مدى سنوات من التناحر. على مستوى الفنانين مثلا، نجد أن قلة منهم كان لهم موقف واضح من نظام الرئيس المخلوع، وأغلبهم مارس اللعبة نفسها؛ إما التزكية، أو الصمت. ومع ذلك كان لعدد من المثقفين الشرفاء دورهم في صناعة الانتفاضة التونسية، وهم اليوم أمام منعرج حاسم في تاريخ الأمة العربية وليس تونس فحسب. وبرأيي إن ما يلزم المثقفين اليوم هو جرعة زائدة من المحبة وكسر حاجز الخوف، حتى يتداركوا ما أضاعوه ويساهموا في بناء مستقبل أفضل. * الشاعرة سعاد الشايب: لا لمزامير اللغة ودلالاتها * ما نحن فيه اليوم، لا يحتمل التنظير ولا الشعارات ولا الاستعارات ولا مزامير اللغة وكرنفالاتها. لقد كان الشعب سباقا إلى التعبير عن رفضه للاضطهاد والقمع، مطالبا بحرية طالما صمت المثقف عن المطالبة بها. ثورة تونس انطلقت من الشارع وتحديدا من شارع فقير، قد لا يفقه في الكتب كثيرا. كان الدم سباقا وسيالا قبل الحبر على الورق. لا أنفي دور المثقف، وقد خرج هو أيضا إلى الشارع يدا بيد مع الفلاح البسيط والعاطل والطبيب والطالب، لكن عندما خرج كان قد عبد طريقه بدم الشهداء، فتدارك الأمر وعلا صوته صارخا مدويا. وكان مساهما أيضا بما سميناه الانتفاضة الرقمية عن طريق النت بإيصال صوت تونس إلى كل العالم. بقلم: حياة الرايس