الحديث عن تعديل شامل للدستور عاد إلى الواجهة بقوة خلال الأسبوع الماضي، فقد اعتبر حزبان من التحالف الرئاسي أن هذه الخطوة أصبحت ضرورية في الظرف الحالي وأنها وحدها كفيلة باستجابة الجزائر لمتطلبات المرحلة الحالية التي تعرف تطورات متسارعة في الداخل والخارج. الأمين العام لجبهة التحرير الوطني عبد العزيز بلخادم اعتبر أنه "ينبغي أن نفكر جديا في تعديل جذري للدستور خاصة وأن هناك أحزاب وشخصيات تطالب بهذا التعديل"، مبررا هذا المطلب بأن "دستور 1996 وضع في ظروف معينة لم تعد الجزائر تعيشها"، غير أنه اعتبر أن عملية تعديل الدستور "لابد وأن يحصل بشأنها توافق سياسي بين كل القوى السياسية بناء على مبادرة من رئيس الجمهورية الوحيد الذي له صلاحيات القيام بتعديل الدستور"، وهذا الموقف رغم أنه ليس جديدا إلا أن التوقيت الذي جاء فيه يعطيه بعدا آخر. بلخادم وضع هذا الخيار كمقابل لمطلب بعض الأحزاب وعلى رأسها جبهة القوى الاشتراكية بانتخاب مجلس تأسيسي يقوم بوضع دستور جديد للبلاد، وبالنسبة للأفلان فإن هناك "تباين فيما يتعلق بمبادرات التغيير واختلاف في المفاهيم فهناك من يتحدث عن مجلس تأسيس واعتماد دستور جديد وهذا يعتبر بالنسبة لنا تغييرا جذريا" وهو ما يجعل الحزب يعتبر هذا الخيار "تنكرا للإنجازات التي حققتها الجزائر في مختلف المجالات منذ انتزاع الاستقلال والسيادة الوطنية ودعوة للانطلاق من الصفر"، وهذه المقابلة بين التعديل الجذري للدستور وخيار العودة إلى الصفر تؤكد أن الأمر يتعلق بمشروع سياسي يطرح الآن كاستباق لمطالب سياسية بدأت تتبلور في ظل حراك تغذيه الأحداث الإقليمية. فقبل شهر كان الأمين العام الأسبق للأفلان عبد الحميد مهري قد راسل الرئيس بوتفليقة واقترح عليه جملة من الأفكار لإصلاح سياسي عميق، ووضع التغيير السلمي هدفا أساسيا لهذه المبادرة التي تدور حول ثلاثة محاور أساسية، أولها، التعجيل برفع القيود التي تحول دون حرية التعبير أو تحد منها، وتوفير الظروف الملائمة لتمكين التنظيمات والمبادرات الاجتماعية لشباب الأمة وطلبتها وإطاراتها ونخبها، في مختلف القطاعات والاختصاصات والمستويات، من ممارسة حقهم الطبيعي والدستوري في التعبير، بجميع الوسائل والطرق القانونية، عن مآخذهم ومطامحهم وآرائهم واقتراحاتهم. المحور الثاني هو تنظيم ملتقيات للحوار في مختلف المستويات ومن مختلف التيارات الفكرية والسياسية التي تنبذ العنف والإقصاء للبحث عن القواسم المشتركة التي يمكن أن تلتقي عندها الإرادات والجهود لإنجاح التغيير السلمي المنشود، مع تنصيب أفواج تضم مختصين وخبراء لتقييم موضوعي لما أنجز في كل قطاع منذ الاستقلال وتحديد نقاط القوة والضعف ورسم آفاق تطويره مستقبلا، إلى جانب إنشاء وداديات التضامن ضد الفساد والرشوة مهمتها إقامة سد في وجه انتشار الفساد، وهي المهمة التي تكمل الإجراءات الإدارية والقانونية التي تهدف إلى القضاء على الفساد. أما المحور الثالث من المبادرة فيتعلق بمد جسور التشاور والحوار، مع القوى السياسية قصد التحضير لانعقاد مؤتمر وطني جامع مهمته تقييم شامل لنظام الحكم وممارساته في مراحله المختلفة منذ الاستقلال، وتحديد المهام والوسائل والمراحل الكفيلة بإرساء دعائم الحكم الديمقراطي ودولة القانون، مع اتخاذ الإجراءات الكفيلة بإخراج البلاد، نهائيا، من دوامة العنف التي تعصف بها منذ عشرين سنة. وبصرف النظر عن كل هذه التفاصيل فإن المطلب الأساسي الآن هو مراجعة شاملة للنظام السياسي من خلال فتح نقاش وطني، ويمثل الدستور النص الأسمى الذي يحدد طبيعة النظام والعلاقات القائمة بين مكوناته ويضع الأرضية التي تقوم عليها المؤسسات وصلاحيات كل مؤسسة، ومن هنا فإن اقتراح تعديل جذري للدستور يعني الاستجابة لهذا المطلب، وقد تبنت حركة مجتمع السلم هذا الخيار أول أمس على لسان رئيسها أبو جرة سلطاني الذي يرى أنه "في ظل التحولات المتسارعة في الوطن العربي كله صار مؤكدا أنه من المصلحة الوطنية المبادرة بمراجعة شاملة للدستور تشمل على وجه الخصوص أربعة مطالب ملحة"، وقد لخص المطالب في "الانتقال بشكل واضح إلى النظام البرلماني والفصل الواضح بين السلطات بالإضافة إلى الاكتفاء بعهدة واحدة قابلة للتجديد مرة واحدة مع إطلاق الحريات وفي مقدمتها الحريات السياسية والإعلامية والنقابية"، وحتى إذا كانت حمس قد استبقت الأحداث بالمطالبة بنظام برلماني فإن هذا التفصيل يطرح مسألة بالغة الأهمية وهي الطريقة التي يمكن اعتمادها لتعديل الدستور، فمنذ مجيء الرئيس بوتفليقة إلى الحكم في سنة 1999 تم تعديل الدستور مرتين، الأولى سنة 2002 عندما تم إدراج الأمازيغية في الدستور كلغة وطنية، وفي سنة 2008 عندما تم تعديل جملة من المواد تتعلق خصوصا بإعادة تنظيم السلطة التنفيذية من خلال إلغاء منصب رئيس الحكومة وتعويضه بمنصب وزير أول، ورفع القيود عن الفترات الرئاسية، ووضع آليات لترقية المشاركة السياسية للمرأة، وفي كلتا الحالتين تم اللجوء إلى البرلمان ولم يتم تنظيم استفتاء شعبي، وكان المبرر هو أن التعديلات لم تمس جوهر النظام السياسي في البلاد وأنها كانت طفيفة. طرح فكرة التعديل الجذري بوصف بلخادم والشامل حسب رؤية سلطاني يحيل مباشرة على خيار الاستفتاء الشعبي، وقد يكون مرتبطا بنقاش وطني تشارك فيه النخب السياسية والإعلامية والمثقفة، وهو ما قد يجعل التعديل عملية سياسية شاملة تعلن بداية مرحلة جديدة من الانفتاح والحوار، وهو مطلب يكاد يحوز الإجماع، كما أنه سيكون مدخلا لإشراك أكبر قدر ممكن من النخب في بلورة تصور يحظى بالتوافق حول الطريق الذي يجب أن تسلكه البلاد في المرحلة المقبلة.