لا أتذكر من سبتمبر 1977 سوى أنني ارتديت أول حذاء في حياتي، باستعمال ذراع ملعقة· فقد اشتراه لي والدي قبل أسبوع من اليوم الذي نحن بصدد الحديث عنه، وأمرني أن أغسل قدمي قبل أن أقيسه، ثم انصرف· شعرت بفرح شديد حتى دمعت عيناي· أخذت الحذاء من العلبة، شممت رائحته وربتّ عليه بكل حنان ورقة وكأنني أشكره على قبوله النزول من علياء رفه إلى هذا الشيء القبيح المسمى قدميّ، اللتين شعرت ساعتها بالشفقة المزرية نحوهما مستكثرا عليهما نعمة هذا الحذاء الرفيع المقام· فارتباطه بهما يعدّ إهانة لا تُغتفر· بدأت بوضع قدمي اليمنى في فردة الحذاء لكنني لم أفلح بسبب حجمها غير المناسب· حاولت مع اليسرى فكان الأمر أكثر سوءا· تبا لهما، إنهما تنكلان بفرحتي· خارت قواي فشعرت بحقد عارم نحوهما. دخلت أمي وسألتني إذا ما كنت قد قست الحذاء· فأجبت بالنفي وكأني غير مهتم بالموضوع· قالت لي: - هيا افعل حالا، فإذا لم يناسبك سيستبدله لك والدك. شعرت بأن قلبي يغادر مكانه وأنا أخرجُ الحذاء من العلبة ثانية· شمرت على ساعدي مستجمعا كامل قوتي·· أخذت نفسا عميقا ووضعت قدمي في فردة الحذاء متأهبا، وبحركة خارقة دفعتها فحشوتها بالكامل داخله· كان حذاء سحريا، أسود وذا لمعان مبهج وبه رائحة لا أزال أتذكرها حتى الآن· فعلت الأمر ذاته مع الفردة الثانية متجرعا إحساسي بالألم لضيقه أو بالأحرى لكبر قدمي على حجمه: - حسنا إن الحذاء مناسب تماما. قلت هذا لأمي وكنت خائفا أن تتدخل وتقول: ''إن الحذاء ضيق على قدمك ومن المستحسن تغييره''· هذه العبارة كانت تخيفني جدا، فأنا لا آمن مكر القدر إذ قد يحدث شيء في الدنيا وأخسر الحذاء· وعليه فإن احتمال الألم أهون من المغامرة. قالت لي أمي : ''هيا قف وتمشّ قليلا لنرى إن كان الحذاء جيدا للمشيب· شعرت بحنق شديد على أمي وأقسمت بأغلظ الأيمان أن الحذاء جيد للمشي وحتى للنوم· لكن أمي أصرت على أن أقوم بخطوات لتتأكد من صحة ما أقول· فقمت على الفور لأخطو أولى الخطوات بهذا الحذاء التاريخي· صاحت بي أمي: ''ويلك··· لا تتمشّ على الأرض، ضعْ قدمك هنا على الحصيرة وتمشّ حتى لا يتّسخ الحذاء، فقد نضطر لاستبداله''· وكانت عبارة ''نضطر لاستبداله'' تصيبني بالدوار كلما سمعتها، فما كان عليّ إلا أن أقيم الحجة على أمي فوقفتُ، وعدلت من وضع جسمي وأرسلت بواسطة دماغي ذلك الأمر اللاإرادي لقدمي اليمنى بأن ترتكز لتسمح لأختها اليسرى بالتقدم خطوة إلى الأمام· لكن ما حدث أنني تجمدت في مكاني ووجدت نفسي عاجزا عن السير· إن المشي في موقف كهذا ليس فعلا عاديا، إنه امتحان صعب يترتب عليه فوزي بالحذاء أو خسارتي له· يا إلهي ماذا يحدث، أيمكن أن أفشل في نقل قدمي خطوة إلى الأمام؟.. انتظرتْ أمي أن أتحرك لكنني بقيت متصلبا وشديد البلادة· احمر وجهي وتسارعت نبضات قلبي وبدأ العرق يتصبب مني وكأني مصاب بحمى. - امشي، وش بيك وليدي امشي··· هل الحذاء يؤلمك؟ حاولت أن أتكلم فلم يطاوعني لساني، هل أصبتُ بالخرس يا تُرى··؟؟·· حاولت أن أستعيد اتزاني وأتشجع لأربح التحدي، لكن بلا فائدة، أنا مسلوب الإرادة الآن··· وانفلت في نوبة بكاء شديدة··· بكيت بحرقة··· ليس بسبب خوفي على الحذاء ولا بسبب الألم، إنها رهبة اللحظة الأولى كما يحدث لشاب قروي ليلة الدخلة. احتضنتني أمي بحنان غامر وتركتي أبكي للحظات حتى هدأ روعي ونسيت أنني في امتحان· وهكذا مشيت فيما بعد دون انتباه مني فأطلقت أمي زغردة حارة تلقيتها كعريس موفق. يتبع···