لم يكن منتظرا أن تشهد العلاقات الجزائرية الفرنسية تحولا جذريا بمجرد حلول الذكرى الخمسين للاستقلال، ولم يكن متوقعا أن يتخذ الرئيس الفرنسي الجديد فرانسوا هولاند قرارات سريعة تغير هذه العلاقات في الشكل والمضمون، غير أن كل المؤشرات تدفع نحو تحول كبير في العلاقة بين الجزائروفرنسا . حتى الرئيس بوتفليقة لم يتوقف كثيرا عند ثقل الماضي الذي يؤثر على العلاقة مع باريس، واكتفى بالقول في حديثه إلى جريدة “لوموند” أن “على الجزائروفرنسا تجاوز صعوبات الماضي من أجل إعطاء خطواتنا أرضية صلبة تصمد أمام أطوار الزمن واضطرابات التاريخ”، وهذا هدف يتقاسمه البلدان حسب التصريحات الرسمية. ما من شك في أن رحيل “نيكولا ساركوزي” عن الحكم سيفتح المجال أمام تحول في الموقف الرسمي الفرنسي من قضية التاريخ التي تثقل العلاقات مع المستعمرات السابقة ومع الجزائر خاصة، غير أن هذا الموضوع يبقى محكوما بعوامل تتجاوز السياسات الحكومية وقناعات صناع القرار، فالمجتمع الفرنسي لم يظهر إلى حد الآن الاستعداد الكافي للنظر بشجاعة إلى الماضي الاستعماري بكل ما يحمله من أحداث مؤلمة وممارسات مشينة في حق الشعوب التي تعرضت للاستعمار، وفي الحالة الجزائرية تحديدا يبدو الأمر أكثر تعقيدا، غير أن العقد الأخير شهد تطورا على مسار التعامل بإيجابية مع ملف التاريخ. في عهد الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك فتح لأول مرة ملف حرب الجزائر التي تم الاعتراف بها أول مرة سنة 2000 بعد أن ظلت إلى غاية ذلك التاريخ تدعى أحداث الجزائر، وقد جاء هذا الاعتراف متزامنا مع صدمة تلقاها المجتمع الفرنسي على إثر الشهادات المثيرة التي نشرتها جريدة “لوموند” لمجاهدات جزائريات تعرضن للتعذيب والاغتصاب على أيدي الجنود الفرنسيين، وقد كان فتح ملف التعذيب نقطة تحول في الوعي الفرنسي والإدراك لحقائق الفترة الاستعمارية، وجاء بعد ذلك كتاب الجنرال بول أوساريس ليرسم صورة قاتمة عن الممارسة الاستعمارية، ويضع الفرنسيين أمام حقائق أقل إشراقا مما تعلموه عن الرسالة الحضارية للاستعمار الفرنسي. النقاش الذي بدأ فرنسيا خالصا شكل صدمة للمجتمع ونخبه، وقد تطلب استيعاب الصدمة قرارات سياسية كان من ضمنها الاعتراف بحرب الجزائر، والإعلان عن فتح الأرشيف أمام الباحثين المتخصصين في تاريخ الوجود الاستعماري الفرنسي في الجزائر، وفي مقابل ذلك لم تبادر الجزائر إلى تناول المسألة أو التعليق عليها، غير أن الجدل حول حقيقة ما جرى تم استغلاله سياسيا من قبل اليمين الفرنسي الذي أحكم سيطرته على الساحة السياسية الفرنسية مع تشدد مواقفه التي جعلته قريبا من اليمين المتطرف، وهكذا تحول تمجيد الاستعمار إلى رد سياسي على التيار الداعي إلى اتخاذ مواقف أكثر جرأة في اتجاه الاعتراف بالجرائم الاستعمارية والاعتذار عنها، وجاء اعتماد قانون 23 فيفري سنة 2005 كرد فعل عنيف من قبل اليمين وبقية النخب الفرنسية بما فيها اليسار الذي زكى القانون الذي تسبب فيما بعد في توتر غير مسبوق في العلاقة بين البلدين. قانون تمجيد الاستعمار كان السبب الأساسي الذي دفع الجزائر الرسمية إلى تبني مطلب الاعتذار عن الجرائم الاستعمارية لأول مرة منذ الاستقلال، وأصبح مألوفا أن يتحدث الرئيس بوتفليقة بوضوح عن هذا المطلب في خطاباته الرسمية، وقد فتح هذا التوجه الباب أمام اقتراح مجموعة من النواب مشروع قانون لتجريم الاستعمار، ورغم أن القانون لم يعتمد إلا أنه كان حلقة ضمن الشد والجذب في العلاقات بين البلدين، وعندما جاء الرئيس ساركوزي إلى الجزائر في زيارة رسمية بعد أشهر من انتخابه سنة 2007 وصف لأول مرة النظام الاستعماري بأنه جائر، غير أنه كان واضحا في رفضه لفكرة الاعتراف بالجرائم الاستعمارية والاعتذار عنها. والحقيقة أن ثقل التاريخ تم توظيفه في تسيير العلاقات بين البلدين، فقد جاء هذا التوتر في سياق خلافات عميقة حول قضايا ثنائية وإقليمية، وكانت قضية الدبلوماسي الجزائري “زيان حساني” الذي تم احتجازه في فرنسا بتهمة التورط في اغتيال المحامي “علي مسيلي” سنة 1987، وقضية اغتيال رهبان تبحيرين، وإدراج الجزائر ضمن قائمة سوداء تضم دولا يخضع رعاياها لإجراءات رقابة مشددة باعتبارهم خطرا على الأمن، وكل هذه القضايا دفعت العلاقات بين البلدين نحو مرحلة قد تكون الأسوأ منذ الاستقلال، غير أن المصالح الاقتصادية دفعت باريس إلى البحث عن سبل جديدة من أجل تجاوز الانسداد، وقد تم تكليف رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق “جان بيار رافاران” بملف العلاقات الاقتصادية مع الجزائر كما جاء التوقيع على اتفاقية الشراكة ضمن الخطوات الهادفة إلى إعادة ترتيب العلاقات بين البلدين. السياق الذي تولى فيه الاشتراكيون الحكم في فرنسا يدفع باتجاه مزيد من التقارب بين البلدين، فعلى مستوى التعاطي مع ملف التاريخ سيكون أهم تحول سيحدث هو إخراج الملف من دائرة الاستغلال السياسي، وإذا كان الاشتراكيون غير قادرين على إحداث تحول سريع في الموقف الرسمي من هذه المسألة فإنهم لن يعملوا على إذكاء التطرف الوطني كما كان يفعل اليمين، وهذا عامل مهم يوفر أجواء التعامل الإيجابي من قبل المجتمع مع قضايا التاريخ وهو ما سيؤدي في النهاية إلى إحداث التحول المطلوب. على مستوى آخر تمثل الرغبة في تجاوز الأزمة الاقتصادية دافعا نحو التقارب مع الجزائر التي توفر سوقا مهمة للاستثمار فضلا عن إمكاناتها المالية التي تثير اهتمام دول غربية كثيرة، ومن هنا فإن المرحلة القادمة سيطبعها التوجه نحو التهدئة، وسيكون التخلي عن لهجة المواجهة خطوة على هذا الطريق خاصة وأن فرنسا تواجه منافسة شرسة من قبل قوى اقتصادية أخرى باتت تهدد ريادتها في السوق الجزائرية. التحول الآخر هو في السياسات الإقليمية الفرنسية، فتراجع النزعة التدخلية في عهد الاشتراكيين قد يساعد على مزيد من التفاهم حول قضايا إقليمية حساسة تعتبرها الجزائر متصلة بأمنها القومي بشكل مباشر، ومن ضمن هذه القضايا الوضع في منطقة الساحل. إبراهيم عبد الله * شارك: * Email * Print