تشهد علاقات الجزائر بكل من تونس وليبيا اتصالات مكثفة وتنسيقا غير مسبوق من أجل تطويق المخاطر الأمنية التي تهدد المنطقة برمتها، وتبدي الجزائر استعدادا كبيرا لتقديم الدعم الذي يطلبه الأشقاء الذين يواجهون مرحلة انتقالية صعبة . في زيارة وصفت بالمفاجئة حل الوزير الأول الليبي علي زيدان بالجزائر الإثنين الماضي، وفي اليوم الموالي جاء الدور على وفد تونسي رفيع المستوى يضم وزير الخارجية وممثل الرئيس منصف المرزوقي وقيادات أمنية وعسكرية، وفي الحالتين تم استقبال الضيوف من قبل الوزير الأول عبد المالك سلال بالإضافة إلى لقاء مع المسؤولين المعنيين بالمسائل التي تمت مناقشتها. من الواضح أن المسألة الأمنية طاغية على هذه التحركات، وإذا كانت مباحثات الوزير الأول الليبي مع نظيره الجزائري لم يتم الكشف عن القضايا التي تمحورت حولها، فإن الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية عمار بلاني فصل أسباب زيارة الوفد التونسي إلى الجزائر حيث قال إن "جزء من أهداف زيارة الوفد التونسي الرفيع، هو قطع الطريق على محاولات التشكيك والتشويش على العلاقات بين الجزائروتونس من قبل أطراف تسعى إلى ذلك، عبر دس تصريحات وتقديم تحاليل مغلوطة ومبيتة، وكذا استبعاد وتفادي أي تأثيرات للتصريحات والقراءات الخاطئة التي تطرحها أطراف إعلامية وسياسية للعلاقات بين الجزائروتونس". وأضاف "نحاول تفادي كل ما من شأنه أن يعكر صفو العلاقات بين البلدين، الوقت للتعاون الأمني والعسكري في مكافحة الإرهاب وليس وقت أزمة أو تلاعب بمصالح البلدين". وقد عبر بلاني عن نية الجزائر التعاون بشكل كامل مع تونس حيث قال ”ليكن واضحا أن العلاقات الجزائريةالتونسية قوية متينة، وهي علاقات إستراتيجية ولا يمكن لأي طرف أن يشوش عليها أو أن يدفع الجزائروتونس إلى حد أزمة. أكثر من ذلك، الجزائر مستعدة كل الاستعداد لتقوية التعاون الأمني، خاصة في الظرف الحالي". التعاون الأمني كان رد الجزائر على اتهامات وجهت لها من قبل وسائل إعلام تونسية بالتورط في الأحداث الأمنية التي هزت البلاد وخاصة عملية اغتيال ثمانية جنود في منطقة جبل الشعانبي بالقصرين غير بعيد عن الحدود مع الجزائر، فقد أكد وزير الداخلية دحو ولد قابلية قبل أيام عن تعزيز التواجد الأمني على الحدود الشرقية، وأشارت تقارير إعلامية إلى نشر 6500 جندي من ضمنهم قوات خاصة على الحدود مع تونس، وأكثر من هذا فقد جرى الحديث عن مشاركة قوات جزائرية في دعم الجيش التونسي الذي أطلق عمليات واسعة النطاق لتعقب مجموعات إرهابية اتخذت من جبل الشعانبي قاعدة لها بغرض إطلاق نشاط مرتبط بتنظيم القاعدة، ونقل عن مصادر أمنية أن الجيش الجزائري قتل ثلاثة مسلحين تسللوا من الحدود التونسية هربا من مطاردة الجيش التونسي. ويشير الانتقال السريع والمباشر للتنسيق الأمني مع الطرف التونسي إلى أن الاتصالات بين الطرفين لم تنقطع وأنها كانت مكثفة خلال الأشهر الماضية، وهو ما يسقط الاتهامات التي وجهت للجزائر، وإذا كان البعد الأمني حساسا ومهما، فإن الجانب السياسي لا يقل أهمية، فالجزائر تريد من خلال تعاونها الأمني مع السلطات التونسية أن تطلق جملة من الرسائل لأكثر من طرف. الرسالة الأولى تقول بأن الجزائر لا تتدخل في الشؤون الداخلية لدول الجوار، والأمر هنا لا يتعلق بشعار بل بالتزام فعلي، فتغير النظام في تونس لم يؤثر على طبيعة العلاقة بين البلدين، بل إن الرئيس بوتفليقة دعا زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي إلى زيارة الجزائر، فضلا عن زيارات المسؤولين التونسيين، وكانت تلك رسالة لتأكيد حسن نوايا الجزائر بخصوص العلاقات بين البلدين، وحتى المسألة الأمنية تم التطرق إليها بشكل مباشر وشفاف مع المسؤولين في تونس، وكانت الدعوة إلى تكثيف التعاون صريحة، كما أن الحديث لا ينقطع في وسائل إعلام مختلفة عن تقديم الطرف الجزائري معلومات أمنية مهمة للطرف التونسي من أجل تحسين استعداده لمواجهة المخاطر الأمنية التي باتت تهدد البلاد. الرسالة الأخرى تفيد بأن الجزائر لا تريد أن تضغط على الحكومة التونسية التي يقودها الإسلاميون، وهي بذلك تسير في اتجاه مختلف تماما مع خط سير بعض دول الخليج العربي التي استعملت المال والنفوذ بشكل فج من أجل إسقاط حكم الإخوان في مصر خوفا من انتقال العدوى إلى منطقة الخليج، وبهذا تؤكد الجزائر أنها تتعامل مع الدول وليس مع الأنظمة، وهي تدرك بأن الأمن قضية حساسة لا يمكن تحويلها إلى ورقة سياسية للضغط على طرف أو لتغيير وضع في بلد، وأمن الجزائر هو من أمن تونس وليبيا بكل تأكيد، وقد أيقن التونسيون حقا أن مشكلتهم الأمنية تتعاظم بسبب الوضع غير المستقر في ليبيا التي تعتبر المصدر الأول للسلاح الذي يستعمله الإرهابيون الناشطون على التراب التونسي. رسالة ثالثة تتعلق بموضوع الحدود، فقد قال بلاني "لا يمكن مطلقا للجزائر أن تفكر حتى في أن تعيد سياجا كهربائيا شبيها بخط شال وموريس وضعته فرنسا خلال فترة الاحتلال، والذي حاربنا من أجل نزعه، كما أنه سيكون من العيب أن تفعل الجزائر ذلك مع الأشقاء التونسيين الذين فتحوا لنا حدودهم وأراضيهم وديارهم خلال فترة الاستعمار"، فالحدود مع تونس لن تغلق، ولن تكون هناك حلول سهلة للوضع الأمني، وهو ما يعني أن الجزائر لا تعتبر مشكلة الأمنية تونسية خالصة، كما أن هناك إشارة بعيدة إلى أن غلق الحدود مع المغرب له أسبابه، وأن الجزائر لا تستعمل الحدود كسلاح ضد جيرانها مع العلم أن تونس مستفيدة من حركة السياح الجزائرين وحتى من حركة التهريب ولو بدرجة أقل مما تستفيد المملكة المغربية. كل هذا الانخراط في مساعدة الأشقاء على استعادة الاستقرار يأتي بعيدا عن سياسات الهيمنة التي أرادت بعض الأطراف أن تتهم الجزائر بانتهاجها سواء على حدودها الشرقية أو الجنوبية، ورغم اعتراف دول الجوار والقوى الكبرى بالدور الإقليمي الذي تلعبه الجزائر في المنطقة والذي تأهلت إلى النهوض به بفعل مقومات القوة التي تمتلكها، فإن الجزائر لا تريد أن تفرض إرادتها على دول المنطقة، ولا أن تصفي حساباتها، وقد تحولت إلى مساعدة الليبيين في وضع قواعد مؤسسات الدولة الجديدة رغم التوتر الذي شاب العلاقات مع طرابلس بعد سقوط نظام القذافي بسبب اتهامات غير مؤسسة للجزائر ، ولعل تحول دول الجوار إلى التركيز على الجزائر يكرس مصداقيتها كعامل استقرار في المنطقة.