يطمح كل مؤمن إلى يوم ترتفع فيه راية "لا إله إلا الله" وتنتشر فيه أنوار الحق، في ظل هيمنة الباطل وانتشار سطوته على المسلمين، مع ما يقابل ذلك من انحسار نور هذه الأمة الذي كان يوما يعلو الآفاق، ولكي تتحقق هذه الأماني يجب علينا أن نتلمّس طريق النصر، ولا يكون ذلك إلا باتباع كتاب الله تعالى، وهنا يرد السؤال المحيّر "متى نصر الله" ليكون منطلق حديثنا. يقول الله سبحانه وتعالى "أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب"، وهذه الآية الكريمة نزلت يوم الخندق، حينما عانى المسلمون أقسى لحظات الأذى، من البرد وضيق عيش وتكالبت عليهم قوى الكفر لتزيل وجودهم وتجعلهم أثرا بعد عين، وليس أبلغُ في وصف حالهم من قوله تعالى "إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا. هنالك ابتليَ المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديدا"، وعلى الرغم من ذلك الهول الذي واجهه المسلمون فقد صبروا على ما أصابهم وأدّوا ما أمرهم الله حتى جاءهم النصر المبين، واندحرت جيوش الكفر تجرّ أذيال الهزيمة وتتجرّع كؤوس المهانة، وكانت تلك الواقعة درساً عظيماً للأمة المسلمة، كشفت بجلاء عن حقيقة النصر والسبل التي تؤدي إليه، ونستطيع أن نجيب على تلك التساؤلات التي يرتفع صوتها بين الحين والآخر لظلم طال، على خلفية تلك الأحداث التاريخية المعطّرة بالنصر الرباني. ينصر الله دينه بعزّ عزيز أو بذلّ ذليل جواب تلك الأسئلة أن الله تعالى قضى بحكمته أن تكون المواجهة بين الحق والباطل سنة كونية من سنن الحياة منذ عهد «آدم» عليه السلام وحتى يرث الله الأرض ومن عليها، لكن العاقبة للمتقين والغلبة لله ولرسوله وللمؤمنين، وفي هذا يقول الله تعالى "كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز"، وقال تعالى "ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين. إنهم لهم المنصورون. وإن جندنا لهم الغالبون"، وبشّر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بذلك، فعن «تميم الداري» رضي الله عنه، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعزّ عزيز أو بذلّ ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر"، رواه «أحمد» و«البيهقي»، وهذا النصر الذي وعد الله به عباده المؤمنين ليس مقتصرا على الدنيا فحسب كما دلّ عليه قوله تعالى "إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد"، وقد يتساءل البعض فيقول "قد عُلِمَ أن بعض الأنبياء قتله قومه كيحيى وزكريا عليهما السلام، ومنهم من ترك قومه مهاجرا كإبراهيم عليه السلام، فهل يتعارض ذلك مع ما جاء في الآية السابقة؟"، والجواب أنه لا تعارض في ذلك أبدا، وذلك لأن الانتصار لأولئك الأنبياء قد حصل بعد مماتهم، كما فعل الله بقتلة «يحيى» و«زكريا» عليهما السلام، فقد سلّط الله عليهم من أعدائهم من يهينهم ويسفك دمائهم، وأما «النمرود» فقد أخذه الله أخذ جبّار منتقم، وانتصر الله لنبيه «إبراهيم» عليه السلام، وتحقق بذلك موعود الله تبارك وتعالى، وعن «أبي هريرة» رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "يقول الله تبارك وتعالى: من عادى لي ولياً فقدآذنته بالحرب"، رواه «البخاري»، وهكذا نصر الله أنبياءه وجعل كلمته سبحانه هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى. درس إيماني أخبرنا الله عز وجل بقصة أصحاب الأخدود، حين قال تعالى "إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق"، إنها نهاية مؤلمة يتفطّر لها قلب كل مؤمن ولا يملك عينه من الدمع عندما يتراءى له ذلك المشهد أمام مخيّلته، وعلى الرغم من ذلك، لم يخبرنا الله تعالى بأنه أرسل جنودا من السماء على أولئك القتلة المجرمين، ولم يخبرنا أيضا بأنه خسف بهم الأرض أو أرسل عليهم حاصبا، كل هذا لم يخبرنا الله به، فأين النصر؟ إن الله عز وجل يريد أن يعلم الأمة أمرا عظيما وهو أن النصر لا يكون بالأسباب الظاهرة والعقوبات العاجلة فحسب، ولكن حقيقة النصر الثبات على المبادئ. إن أولئك الشهداء المؤمنين انتصروا في حقيقة الأمر لأنهم استطاعوا أن يثبتوا على مبدأ الإيمان مع كل تلك الخطوب العظيمة والآلام الجسيمة، تلك هي حقيقة النصر التي يجب أن تتعلمها الأمة وتعيها جيدا، وعلى أن هذا النصر الظاهر قد يتأخر، ويستبطئه المؤمنون، لحكمة يريدها الله، ولأسباب لا يعقلها إلا من وهبه الله نظراً ثاقباً وفهماً عميقاً للأمور والأحداث، ومن تلك الأسباب كون الأمة الإسلامية غير مؤهلة لحمل راية الإسلام، فلو نالت النصر لفقدته سريعا، لعدم قدرتها على حمايته طويلا، وقد يبطيء النصر لأن الله تعالى يريد من المؤمنين أن يزيدوا صلتهم بالله ويجردوا نواياهم من كل ما يشوبها من حب للظهور أو طلب لأطماع دنيوية أو مآرب شخصية، فإذا توافرت أسباب النصر عند الأمة كانت الأمة جديرة بنصر الله تعالى لها، ومن ناحية أخرى قد يتأخر النصر لأن الباطل الذي تحاربه الفئة المؤمنة لم تنكشف حقيقته للبسطاء من الناس، وبالتالي لم يقتنعوا بعدُ بفساده وضرورة زواله، فيحتاج الأمر إلى مزيد من الوقت والجهد لكشف زيفه كي يتقبّل الناس ذلك النصر ويكون له أعظم الأثر في نفوسهم بعدما تبيّنت لهم حقيقة الباطل وأثره السيء على دينهم ودنياهم، فإذا غلبه المؤمنون حينئذ لم يجد من يذرف الدموع عليه ويأسف على زواله. يُعلي الله تبارك وتعالى كلمته وينصر دينه ولن يتم ذلك إلا بالأخذ بأسباب النصر وعوامل تحققه، ومهما طال ليل الهزيمة فإن نهار النصر آت، وحينئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله ويتم الله الأمر لهم وتنتشر الدعوة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها.