الإخبار عن قصصٍ لحضارات غابرة من الإشارات القرآنية الإعجازية، والحديث عن مواقف غيبيّة وقعت في أمم سابقة لم يكن لها اتصالٌ مباشرٌ بأهل الجزيرة العربية واحد من أقوى الأدلة على نبوة «محمد» عليه الصلاة والسلام، قال سبحانه وتعالى "ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون"، وقال سبحانه "ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون"، ووجه الإعجاز في ذكر تلك القصص هو أن البيئة العربية لم تكن على علم بها، سوى ما ورد ذكره من إشاراتٍ مجملة، أتت من قبيل ضرب الأمثال، كقولهم "كانَتْ عَلَيْهُمْ كَرَاغِيةِ البَكْر"، والمقصود به ناقة النبي «صالح» عليه السلام، أما تفاصيل تلك القصص فلم يكون العرب على علمٍ بها، وهذا يُثبت أنه عليه الصلاة والسلام علم بها من مصدر آخر، ويشير القرآن إلى ذلك بقوله تعالى "تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا"، أما أهل الكتاب فلم تكن تلك الأخبار الدقيقة معلومة سوى عند الأكابر من أحبارهم الذين أفنوا أعمارهم في دراستها وتعلّمها، في الوقت الذي لم يثبت فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تلقّى عنهم تلك العلوم لا في مكّة ولا في غيرها، ومع علمنا بشدّة حرصهم على تكذيبه وإبطال دعوته، فلم يدّع أحدٌ منهم قيامه بتعليمه أياً من تلك العلوم، وإذا أضفنا إلى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أمّياً لا يُحسن القراءة ولا الكتابة، فلم يكن من المتصوّر أن يتلقّى مثل هذه الأخبار عن كتب أهل الكتاب، وبالتالي لا سبيل لمعرفة تلك التفاصيل إلا عن طريق الوحي، ولهذا المعنى أقرّ بعض الأحبار بصدق النبي صلى الله عليه وسلم في نبوّته، فحين أتى وفدٌ من علماء اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا له "يا أبا القاسم، حدّثنا عن أمورٍ نسألك عنها، لا يعلمهنّ إلا نبي"، فكان فيما سألوه "أيّ الطعام حرّم إسرائيل على نفسه قبل أن تُنزّل التوراة"، فقال لهم "أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى: هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضاً شديداً فطال سقمه، فنذر لله نذراً لئن شفاه الله من سقمه ليُحرّمنّ أحب الشراب إليه وأحب الطعام إليه، فكان أحب الطعام إليه لحم الإبل وأحب الشراب إليه ألبانها"، فقالوا "اللهم نعم"، رواه «أحمد». عبرة بأحسن السبل إلى القلوب تمتلء نصوص القرآن والسنّة بقصص الأمم السابقة بأحسن أسلوب، ابتداءً بقصّة «آدم» عليه السلام ومراحل تكوينه ونفخ الروح فيه، ثم أمر الله تعالى للملائكة بالسجود له وعصيان إبليس لربّه، ثم خروج «آدم» عليه السلام من الجنّة واستقراره على الأرض، حتى وفاته، مروراً بقصص أولي العزم من الرسل والابتلاءات التي لحقتهم في سبيل دعوتهم، والمعجزات التي أيّدهم الله بها وموقف أقوامهم منها وما تخلّل ذلك من مواقف تربويّة ومواعظ جليلة وعاقبة الذين آمنوا بهم في الدنيا والآخرة، والعقاب الإلهيّ الذي حلّ بالمعرضين عن قبول دعوتهم، كما وردت في نصوص الوحيين أخبارٌ كثيرة عن الصالحين وما جرى لهم من أحداث كقصّة أصحاب الكهف وخبر «موسى» مع سيدنا «الخضر» و«يوسف» وإخوته، وتمكين «ذي القرنين»، ووصايا «لقمان» وتفاصيل ما حدث للعبد الصالح الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه ليوقفه على حقيقة البعث والنشور، ومن ذلك أيضا قصّة البغيّ التي سقت كلباً فغفر الله لها، وقصّة التاجر الذي كان يتسامح مع الدائنين، فنال بذلك المغفرة من الله وقصّة قاتل التسعة والتسعين نفسا، وقصّة الغلام المؤمن والساحر، وقصّة أصحاب الغار والصخرة التي سدّت عليهم بابها، وكل هذه القصص تضيف بُعداً جديداً للدلائل الكثيرة على صدق نبوّته صلى الله عليه وسلم وأحقّية رسالته، وهو الأمر الذي لم تنكره الديانات الأخرى إلا إنكار جحود لقيام المعجزة بأخبار نبينا صلى الله عليه وسلم.