نهى الله سبحانه وتعالى عن السخرية من الناس فقال "يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم"، قال «الضحاك» "نزلت في وفد «بني تميم»، كانوا يستهزئون بفقراء الصحابة مثل «عمار» و«خباب» و«بلال» و«صهيب» و«سلمان» و«سالم» مولى «أبى حذيفة» وغيرهم لما رأوا من رثاثة حالهم، فنزلت في الذين آمنوا منهم"، وقيل نزلت في «عكرمة بن أبى جهل» حين قدم المدينة مسلما، وكان المسلمون إذا رأوه قالوا "ابن فرعون هذه الأمة"، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت، وقيل نزلت في «ثابت» لمّا عيّر رجل بأمّ له في الجاهلية، وقال الإمام «القرطبي» "يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله، لا يهزأ قوم مؤمنون من قوم مؤمنين عسى أن يكونوا خيراً منهم، أي المهزوء منهم خير من الهازئين، ولا نساء من نساء أي، ولا يهزأ نساء مؤمنات من نساء مؤمنات عسى المهزوء منهن أن يكن خيراً من الهازئات"، وقال "إن الله عمَّ بنهيه المؤمنين عن أن يسخر بعضهم من بعض جميعَ معاني السخرية، فلا يحلّ لمؤمن أن يسخر من مؤمن، لا لفقر ولا لذنب"، وقال "وبالجملة، ينبغي ألا يجترىء أحد على الاستهزاء بمن يقتحمه بعينيه إذا رآه رثّ الحال أو ذا عاهة في بدنه أو غير لبق في محادثته، فلعلّه أخلص ضميرا وأنقى قلباً ممن هو على ضدّ صفته، فيظلم نفسه بتحقير من وقّره الله والاستهزاء بمن عظمه الله". حذر السلف من شُبهها بلغ بالسلف في إفراط تَوَقِّيهم وتصوّنهم من السخرية أن قال «عمرو بن شرحبيل» "لو رأيت رجلا يرضع عنزا فضحكت منه لخشيت أن أصنع مثل الذي صنع"، وعن «عبد الله بن مسعود» "البلاء موكل بالقول، لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلبا"، وفي تفسير قوله تعالى "فاتخذتموهم سخرياً حتى أنسوكم ذكري"، قال «القرطبي» "يستفاد من هذا التحذيرُ من السخرية والاستهزاء بالضعفاء والمساكين والاحتقار لهم والازدراء عليهم والاشتغال بهم فيما لا يعنى وأن ذلك مُبعِدٌ من الله عز وجل"، وعن «عائشة» رضى الله عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم "حسبك من «صفية» أنها كذا وكذا تعني قصيرة" فقال "لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته"، قالت "لو حكيت له إنساناً فقال ما أحب أني حكيت إنساناً وأن لي كذا وكذا"، رواه «أبو داود» و«الترمذي»، ولما سبّ «أبو ذر» رضي الله عنه رجلا فعيَّره بأمه قال له النبي صلى الله عليه وسلم "يا أبا ذر أعيّرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية"، رواه «البخاري»، وعن «أم هانىء» عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى "وتأتون في ناديكم المنكر"، قال: "كانوا يخذفون -يحقرونهم وينبذونهم- أهل الأرض ويسخرون منهم"، رواه «أحمد» و«الترمذي»، وكان مشركوا مكة يضحكون من «عمار» و«صهيب» و«بلال» وغيرهم من فقراء المؤمنين فنزلت الآيات "إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون"، وقيل "جاء «علي بن أبي طالب» رضي الله عنه في نفر من المسلمين فسخر منهم المنافقون وضحكوا وتغامزوا ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا: رأينا اليوم الأصلع"، فضحكوا منه فنزلت هذه الآية قبل أن يصل «علي» رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. التنابز بالألقاب والتعيير التهكّم والتعيير بالفقر أو الذنب نوع من السخرية، ويدخل في السخرية أيضاً التنابز بالألقاب، قال «القرطبي» "التنابز بالألقاب هو دعاء المرء صاحبه بما يكرهه من اسم أو صفة، وعمَّ الله بنهيه ذلك ولم يخصص به بعض الألقاب دون بعض، وغير جائز لأحد من المسلمين أن ينبز أخاه باسم يكرهه أو صفة يكرهها"، ولما كانت آية السخرية "يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم" نزلت في بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم، عَيَّرن «صفية» بالقصر، وقيل نزلت في «عائشة» رضي الله عنها، أشارت بيدها إلى «صفية» قائلة "يا نبي الله إنها لقصيرة"، وقال «عكرمة» و«ابن عباس» إن «صفية» بنت حيي قالت "يا رسول الله، إن النساء يعيّرنني ويقلن لي يا يهودية"، كل ذلك يدل على أن التنابز بالألقاب إنما هو داخل في مفهوم السخرية، ومن ثم يكون ذكر اللمز والتنابز بعد ذكر السخرية من قبيل ذكر الخاص بعد العام اهتماما". من أمراض القلوب إن السخرية لا تنبعث إلا من نفس ملوَّثة بجراثيم العُجْبِ والتكبُّر، فهي تعمل على إيذاء من حولها بدافع الشعور بالفوقية، ولقد استهان إبليس بآدم وسخر منه قائلا "أنا خير منه"، فباء بالخسارة والخذلان، ولو أنه أمعن النظر في صفات آدم لأدرك أنه يمتاز عليه بصفات كثيرة، إنها داء من أدواء الجاهلية، يجب تجنبه والبعد عنه وخصوصا عند المشاحنة والخصومة، وهي من سمات الكفار والمنافقين ومن شأنها أن تفكك عُرى المجتمع ويكفي أنها مخالفة صريحة لأمر الله عز وجل، ومبعدة من رضوانه سبحانه، تنسي الإنسان ذكر ربه ونذير شؤم لصاحبها ومن أسباب حلول العذاب بالساخرين.