أثار الاتفاق الذي تُوّجت به أشغال اجتماع الثلاثية أسئلة قديمة حول دور الاتحاد العام للعمال الجزائريين في تحقيق مطالب العمّال باعتماد أسلوب التفاوض الهادئ مع الحكومة، ورغم أن بعض النقابات المستقلة تريد أن تزاحم المركزية النقابية في ساحة النّضال إلا أن «سيدي السعيد» يبدو أكثر ثقة بمستقبل الاتحاد ودوره على الساحة السياسية والاجتماعية. في تصريحات أطلقها عقب الإعلان عن نتائج الاجتماع ال13 للثلاثية، قال أمين عام الاتحاد العام للعمّال الجزائريين «عبد المجيد سيدي السعيد» "إن دورة الثلاثية هذه تُعدّ انتصارا للاستقرار الاقتصادي والاجتماعي للبلاد وأن الحوار والتفاوض هما وحدهما الكفيلان بمعالجة وإيجاد الحلول للمسائل الاقتصادية والاجتماعية التي تخصّ مستقبل البلاد، لأنه لا يمكننا الفصل في مسألة رفع الأجور عن الصحة الجيّدة للاقتصاد الذي يجب بعثه، كما أنه لا يمكننا فصل المسالة الاقتصادية عن التقدم الاجتماعي". «سيدي السعيد» ربط ما تحقق من مكاسب للعمال "بوفاء رئيس الجمهورية الكامل بالتعهّدات التي قطعها أمام العمال يوم 24 فيفري الماضي بأرزيو، معتبرا أن ذلك يشهد على القناعة العميقة للقاضي الأول للبلاد إزاء عالم الشغل بالتّحسين المستمر للقدرة الشرائية للعمال والمواطنين"، وذهب أمين عام المركزية النقابية إلى حدّ القول "إنه في إطار الثلاثية تجاوزنا مفهوم التفاوض، كوننا توصّلنا سويّة إلى إجماع برفع القدرة الشرائية للعمّال التي حتى وإن كانت غير كافية فقد عرفت زيادة ب3000 دج، وهو أمر جديد بالمقارنة مع الزيادات السابقة"، وقد شدّد «سيدي السعيد» خلال مناسبات سابقة على أن الاتحاد لا يُسقط من حساباته الوضع الاقتصادي والاجتماعي القائم في البلاد، وهو ما عاد إلى تأكيده مجدّدا في تصريحات الخميس الماضي عندما قال "لا يمكننا فصل رفع الأجور عن الصحة الجيّدة للاقتصاد الذي يجب بعثه". القراءات السياسية التي تم تقديمها حول دور النقابات المستقلة ومطالب هذه الأخيرة بإشراكها في اجتماعات الثلاثية لم تكن دقيقة، فرغم أن النقابات المستقلة التي تنشط في ميدان الوظيف العمومي حقّقت بعض المكاسب من خلال الاحتجاجات الكثيرة التي نظّمتها، في قطاعي التربية والصحة على وجه التّحديد، فإن اتحاد العمّال يبقى النّقابة الأقوى على الأرض، وقد أثبتت تجربة العقد الاقتصادي والاجتماعي الذي تم توقيعه في أكتوبر 2006 أن أسلوب التوافق مع الحكومة يمكن أن يحقّق نتائج هامة على صعيد تحسين مستوى معيشة العمّال والقدرة الشرائية لأغلبية الجزائريين. التصوّر الذي تم اعتماده خلال السنوات الثلاث الماضية يقوم على تناول الوضعية الاجتماعية كجزء من العملية التنموية وخطّة النهوض الاقتصادي، فالمبادرة إلى وضع إطار للتفاوض المستمرّ، والاعتماد على الحوار الدائم من أجل التكفّل بانشغالات العمّال جنّب البلاد كثرة الاحتجاجات التي كانت تكلّف الاقتصاد الوطني غاليا دون أن تحقّق أيّ مكاسب تُذكر للعمّال، فقد كانت الإضرابات الكثيرة التي عرفها القطاع الاقتصادي خلال النصف الأول من العقد الماضي بدون أية نتائج، وكان اللجوء إلى إعادة ترتيب العلاقة بين الحكومة والشركاء الاجتماعيين هو المدخل لضمان الحدّ الأدنى من الاستقرار الاجتماعي الذي بدونه يستحيل تحقيق التقدم على الجبهة الاقتصادية. في مقابل هذا الالتزام من جانب الشريك الاجتماعي، كانت هناك إرادة سياسية من جانب الرئيس، تُرجمت في التدخلات المباشرة من أجل تصحيح الاختلالات على الجبهة الاجتماعية، وهو ما أشاع جوّا من الثّقة وعزّز مكانة المركزية النقابية كشريك قويّ قادر على تمثيل العمّال دون الإصرار على إفساد الحسابات التي تُجريها الحكومة في ظل ظروف دولية دقيقة تميّزها أزمة مالية واقتصادية عالمية خطيرة. الوزير الأول «أحمد أويحيى» ردّ على النقابات المستقلة المطالبة بالمشاركة في اجتماعات الثلاثية بأن هذه النقابات تنشط فقط في مجال الوظيف العمومي، وهو ما يعني أن مشاركتها ستكون في إطار الثنائية، والحقيقة أن هذا الرّدّ من جانب «أويحيى» يُعيد هذه النقابات إلى حجمها الحقيقي على الساحة، وكانت القرارات الأخيرة التي اتخذتها الحكومة والتي أدّت إلى إنهاء إضراب الثلاثة أسابيع الذي شهده قطاع التربية، استجابة لمطالب النقابات المستقلة التي تنشط في القطاع، وهي إشارة إلى رغبة أكيدة على المستوى السياسي من أجل التكفّل بالمطالب الشرعية، في حدود ما يسمح به الوضع الاقتصادي للبلاد. خيار الحوار يبدو خيارا سياسيا واعيا، وهو يعني كل الشركاء الاجتماعيين بما في ذلك النقابات المستقلة، ولعل أهم ما تحقق خلال السنوات الماضية هو إخراج المطالب الاجتماعية من دائرة الاستغلال السياسي، حيث لم تعد الاحتجاجات العمالية والإضرابات جزءا من وسائل الضغط التي تحرّكها بعض الأطراف من أجل تحقيق المكاسب السياسية، وهذا مؤشّر استقرار يُعتبر في غاية الأهمية من أجل تحقيق التنمية الاقتصادية المطلوبة، كما أن الإشارات الواضحة التي أطلقها أمين عام اتحاد العمال بخصوص ضرورة تحقيق نهوض اقتصادي توحي بأن الخطاب النقابي يتّجه أيضا نحو توعية العمّال بأن تحسين القدرة الشرائية ومستوى المعيشة لا يكون فقط بالتفاوض مع الحكومة والضغط عليها، بل يمرّ أوّلا عبر تحسين أداء الاقتصاد الوطني، وهي مسؤولية يقع جزء مهم منها على عاتق العمّال.