تتعدد أنماط الجمهورية التي يمكن المواطن العربي أن يسعد بالعيش فيها .. وأن يقطف من ثمار ديمقراطيتها اللذيذة.. بتعدد ما يداعبه من أحلام.. وما يخالط ذهنه من أوهام.. وما يعتري دنياه من آلام.. يكفيه إعلان انتمائه للجمهورية التي يريد.. حتى تساق له جاهزة.. مثالية.. حالمة.. وديعة.. بلا جدران.. أو عسس.. وبلا استثناءات أو ممنوعات. هكذا هي الأشياء في وطننا العربي الكبير.. فريدة فرادة النظام الرسمي .. متميزة بما يجعلها تقع خارج الزمان والمكان .. من رغيف الخبز الذي يشقى لاستخلاصه من أنياب المرابين .. إلى الحرية التي تصادر منه .. قبل أن ينزل من رحم أمه. في المقام الأول.. نجد جمهورية الورق .. أعني التي تكتب ولا تنطق .. والتي قد تتفوق في ثرائها القانوني على ما لدى الآخرين .. افتح أي دستور عربي واقرأ مادته الأولى .. فسترى أنك أمام جمهورية أفلاطون .. ربيع دائم الخضرة من الحقوق والحريات .. وحقول مزهرة من المثل العليا. إذا ما قنعت بالعيش على الورقة.. ولم تفكر في اجتياز حافتها الحادة.. فستنعم بأجمل ديمقراطية مكتوبة على الإطلاق. تليها الجمهورية الحالمة.. أي التي تنسج من الخيط الحريري للحالمين بإمكان قيام جمهورية عربية ديمقراطية.. من خلال الصندوق الانتخابي.. ينعم فيها الناس بالحد الأدنى المضمون من شرف المواطنة .. ومن سمت الإنسانية. تتولى الأحزاب السياسية أكثرها طبعا التبشير بهذه الجمهورية.. التي تعلم الناس كيف يحلمون.. لكنها لا تفكر في إيقاظهم من النوم. تليها جمهورية الواجهة.. التي تعرض بضاعتها خلف الزجاج.. مقرونة بملاحظة ''تفرج ولا تلمس من فضلك''.. البعض يسميها جمهورية الشكل.. لأنها تخلومن المضمون.. موجهة للتصدير أكثر منها للاستهلاك المحلي .. ويمكن تسميتها بالجمهورية الافتراضية.. لأننا نحن المواطنين العرب مطالبون بافتراض وجودها .. وتصديق أنها موجودة فعلا.. حتى وإن كنا لا نسمع صوتها ولا نلمس جسمها. أغلب الدول العربية.. تأخذ بخيار جمهورية الواجهة.. لأنها تخشى أن تتهم بالدكتاتورية المفرطة.. وانتهاك آدمية الإنسان. ثمة جمهورية أخرى مستحقة للسلطة الفعلية.. ويمكن تسميتها بجمهورية الظل والخفاء.. يحكمها الجن وليس الإنس.. ومن أجل هذه الكائنات غير المرئية تقوم الدولة وتدوم.. هم المتصرفون الحقيقيون في الأقوات والأصوات.. والفاعلون لما شاؤوا .. متى شاؤوا.. وكيفما شاؤوا. الجمهورية الوراثية.. وهي خلاصة الاحتواء الذي تمارسه السلالات ذات الدم النقي.. فلكل حاكم جمهوري وريث شرعي مستنسخ من جيناته البيولوجية.. وعندما يتعذر عليه ذلك .. بسبب العقم البيولوجي.. يصار إلى تبني وريث أيديولوجي.. يكمل المسيرة.. ويحفظ كيان الدولة.. ويحقق المعجزات.. وذلك هو الميثاق المقطوع بين الخلف والسلف. جمهورية الشرعية التاريخية.. التي تسكن التاريخ وتأبى إخلاءه.. لأنها صانعة الأمجاد .. وسيدة الماضي والحاضر والمستقبل .. ومن المفارقة أن هذه الشرعية غير قابلة للفناء .. إذ يحكم على التاريخ أن يستمر إلى الأبد .. وينتقل عبر المورثات الجينية باستنساخ أجيال جديدة من الكائنات التاريخية. هذه بالجملة.. بعض ألوان الجمهوريات الحاكمة في الوطن العربي .. القاسم المشترك الأعظم بينها أنها جمهوريات الأمر الواقع.. يجب التسليم بوجودها لأنها موجودة.. تحفر جغرافيتها الناتئة على أجساد الشعوب.. وليست لها حدود معروفة واقعا أوافتراضا. باختصار.. هي ليست جمهورية واحدة .. بل جمهوريات.. تختلف على السطح .. وتتلاقى في العمق .. تتباين شكلا .. وتتحد مضمونا. لكل شعب عربي.. من هذه الشعوب النائمة خارج العصر.. أن يختار الجمهورية التي يريد.. وستبذل له.. لأن السلطان لا يبخل بشيء من خيراته عن شعبه العزيز .. حتى ولوكانت ديمقراطية من آخر طراز. ٌ في كل ما ذكرت سابقا.. أشرت إلى ألوان من الجمهوريات محلية الصنع .. أي التي تنجز بأدوات مبتكرة محليا .. وقد لا تكون مستوردة إلا في حالات نادرة .. لأن شرعيات القوة ليست بحاجة إلى حماية خارجية عندما يتعلق الأمر بحياة الحاكم .. واستمراره في الحكم. أريد الآن .. الإشارة إلى جمهورية خاصة هي ''جمهورية .. ما وراء البحر'' .. التي تختلف عن سابقاتها من حيث بطاقة المنشأ.. جمهورية عابرة للحدود.. تنشأ في مكان ما خارج الحدود الوطنية.. وبطريقة ما تعبر الحدود لتستقر في الجمهورية الأم. حدث هذا في جنوب السودان.. وفي شمال العراق .. وغدا سيقع في مكان ما.. حيث تظهر هذه الجمهورية.. في صيغة إعلان عن فكرة.. مطالبة بهوية خاصة .. تحرير لغة مضطهدة .. إعادة الاعتبار لأقلية محرومة من حقوقها .. وفي مرحلة لاحقة.. سعي نحوحكم ذاتي أوجهوي.. ينتهي بقيام جمهورية كاملة الأركان. أليس هذا ما يبشر به الناطق باسم حركة المطالبة بحكم ذاتي في منطقة القبائل؟ هي جمهورية ما وراء البحر.. بحكم رعايتها خارجيا.. ولومن وراء الستار .. تبدأ بحجم حبة قمح .. لكنها تنموسنبلة .. ثم تنتشر وتكبر لتكون حقلا .. وطنا .. فدولة. إن من يرى المطالبين بحكم ذاتي واهمين.. يكون هوالواهم الأكبر.. لأنه لا يريد أن يرى كيف تنموجمهورية ما وراء البحر .. وكيف تكتسب سواحل جديدة ترسوعليه سفينة المطالبة بدولة مستقلة. في الجزائر .. الحكومة تفاوضت مع العروش .. وبالتالي أقرت بشرعيتها السياسية .. قننت الأمازيغية باعتبارها لغة وطنية .. ووفرت إعلاما حكوميا يرسم خصوصية ما يسمي بشعب الأمازيغ تمييزا له عن شعب العرب .. منحت امتيازات ضريبية وغير ضريبية لبعض المناطق .. وأقرت أشياء أخرى ذات صلة ببناء كيان مستقل. فهل نقول اليوم .. لا شيء يحدث في اتجاه تكريس جمهورية.. ما وراء البحر؟ في الطبيعة.. توجد بعض الكائنات الحية التي تحقن بيضها في أجسام كائنات أخرى .. حتى إذا فقست .. وجدت الطعام والمأوى .. فنمت على حساب هذا الجسم المضيف.. الذي يذبل ويموت. نخشى أن تكون جمهورية ما وراء البحر.. لونا من الحشرات التي تنموفي كيان غيرها.. فإذا ما برزت إلى الوجود.. مات الأصل.. وعاش الوافد الجديد