في قلب القاهرة القديمة التي كان يعلوها الكثير من الكنائس القبطية والمعابد اليهودية، جاء عمرو بن العاص بالفتح الإسلامي إلى مصر، وشيّد مدينة الفساط، وبنى بها مسجده الشهير عمرو بن العاص عام 642م، والذي يُعدّ أول مسجد في مصر وإفريقيا، ويُعرف باسم تاج الحرمين أو المسجد العتيق. واشتهر عمرو بن العاص بالذكاء والدهاء والإقدام في الحروب، وينتمي إلى طبقة النبلاء من قبيلة قريش، وعمل في التجارة خلال فترة ما قبل الإسلام، وكان يرافق القوافل على طول الطرق التجارية عبر آسيا والشرق الأوسط بما في ذلك مصر، وُلد في مكةالمكرمة عام 573م وتُوفي في مصر عام 663م عن عمر يناهز ال90 عاماً، وخلال فترة الوثنية حارب ابن العاص مع قبيلة قريش ضد الإسلام في عدة معارك..، ولكن عندما شاهد صلاة المسلمين حاول معرفة المزيد عن الإسلام، وقبل العام الثامن من الهجرة النبوية اعتنق الإسلام وشارك في الفتوحات الإسلامية في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، الذي أرسله كقائد للجيش الإسلامي لمحاربة الرومان، الذين اضطهدوا المسيحيين وحرقوا الكنائس وهدموا البيوت والمتاحف القبطية، وبالتالي يُعتبر عمرو منقذاً لأقباط مصر من هجمات واضطهاد الرومان. ويقول مؤرخون: إن "حمامة" كانت السبب الرئيسي وراء قرار عمرو بناء المسجد في مكانه الحالي، فعندما غزا عمرو بن العاص مصر أقام خيمته على الجانب الشرقي لنهر النيل، وقبل أن يقرّر الذهاب إلى إحدى معاركه لاحظ أن حمامة قد وضعت بيضة في خيمته ، وبعد عودته منتصراً من الإسكندرية أعلن الموقع عاصمة جديدة للمدينة وأطلق عليها اسم "الفسطاط"، وبُني في وقت لاحق المسجد على هذا الموقع الذي يطلّ على النيل إلى الشمال من حصن بابليون. وتم بناء المسجد على مساحة تبلغ نحو 1500 ذراع مربع، وكان شكله بسيطاً، عبارة عن سقيفة صغيرة مستطيلة الشكل مصنوعة من الخشب وسعف النخيل، مع أعمدة من جذوع النخل، والأرض مغطاة بالحصى، والجدران من الطوب الطين مع قليل من الزينة، ولم يكن بالمسجد مآذن، وكان يحتوي على ثلاثة أبواب: باب على الجانب الشمالي، واثنان يواجهان منزل ابن العاص في ذلك الوقت. ومع مرور السنوات لم يبقَ شيء من بناء المسجد الأصلي، حيث خضع لسلسلة من التعديلات والتوسّعات والإضافات والترميمات التي تم تسجيلها خلال فترات مختلفة من العصور الإسلامية (الأيوبية والمماليك والعباسية..)، وتم توسيع منطقة المسجد، وتم استبدال الأعمدة بأخرى من الرخام، وزُيّنت الجدران وازداد عدد المداخل، وأُضيفت المآذن ورواق للقبلة. وفي عام 672م قام مسلمة الأنصاري، حاكم مصر نيابة عن الخليفة معاوية بن أبي سفيان، بتوسيع وتجديد المسجد، حيث زُيّنت الجدران والسقوف وأُضيفت أربع مقصورات، وتم عمل مئذنة لإعلام المصلين بالصلاة، في حين تمت تغطية أرضية المسجد بحصير من القش. وفي عام 698م تم هدم المسجد وتوسيعه من قِبَل حاكم مصر عبد العزيز بن مروان، وأيضاً في عام 711م تم هدم المسجد مرة أخرى على يد والي مصر الأمير قرة بن شريك العبسي، بناء على توجيهات الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، وتم توسيع مساحة محراب المسجد، وبناء منبر خشبي وحجرة، وعمل أربعة أعمدة من الجرانيت المغطى بماء الذهب، بالإضافة إلى عمل أربعة أبواب إلى الشرق، وأربعة إلى الغرب، وثلاثة إلى الشمال. وتحت حكم الدولة العباسية أُدخلت إضافات متتالية، ففي عام م827 أصدر والي مصر عبدالله بن طاهر نيابة عن الخليفة المأمون، قراراً بزيادة مساحة المسجد وإجراء التعديلات المطلوبة، وتُعدّ الفترة الفاطمية بمثابة العصر الذهبي للمسجد، حيث أدخلت الفسيفساء وأعمال الرخام، وحجرة خشبية وزينة من الذهب والفضة، كما قدّمت تعديلات هيكلية في مسجد عمرو خلال حكم مراد بك في الحقبة العثمانية عام 1797م بسبب انهيار بعض الأعمدة، وقد تم هدم المناطق الداخلية من المسجد وإعادة بنائها. ومن جانبه، يقول د. عبد المقصود باشا، أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة الأزهر: إن مسجد عمرو لم يكن مجرد مكان للعبادة، ولكن كان بمثابة محكمة لفض المنازعات الدينية والمدنية، وعلاوة على ذلك كان مكانا للوعظ وتدريس العلوم الدينية العامة في علوم القرآن والفقه. ويوضح أن المسجد يشتمل على عناصر المباني اليونانية والرومانية، ويضمّ حوالي 150 من الأعمدة ذات الرخام الأبيض وثلاث مآذن بسيطة في التصميم، وهناك عدد من اللوحات الخشبية التي تحمل النقوش البيزنطية. ويرى أن المكان الذي يقع فيه المسجد يُعتبر مجمعاً للأديان، حيث تضمّ المنطقة شارع ماري جرجس الذي يحتوي على عدد من الكنائس القبطية والمتحف القبطي، وأيضاً معبد بن عزرا اليهودي، بالإضافة إلى سوق الفسطاط المجاور للمسجد. بينما يوضح د. محمود إسماعيل، أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة عين شمس، أن جامع عمرو بن العاص كان مركزاً لعاصمة الفسطاط التي تأسّست بعد الفتح الإسلامي لمصر، وتابع: أحد أركان المسجد يحتوي على قبر ابنه عبدالله بن عمرو بن العاص، ولكن نظراً لإعادة الإعمار على مدى قرون لم يتبقَ شيء من المبنى الأصلي، ويرمز المسجد للقاهرة القديمة، ويُعتبر مزاراً مفتوحاً للزوّار والسيّاح. وتابع: المسجد ومدينة الفسطاط تم تدميرهما في عام 1169م، جراء إطلاق النار من قِبَل القائد المصري شاور، الذي احتمى بالمدينة خوفاً من إلقاء القبض عليه من الصليبيين..، ومع تولي صلاح الدين الأيوبي السلطة أمر بإعادة بناء المسجد في 1179م. ويشير إلى أن ابن العاص أُرسل من قِبَل الخليفة أبي بكر الصديق كقائد للجيوش العربية الإسلامية إلى فلسطين، ولعب دوراً هاماً في الفتح العربي في تلك المنطقة، وخاض معارك شرسة في أجنادين واليرموك، وكذلك في حصار البيزنطيين بدمشق. وتابع: بعد النجاح الذي حقّقه ابن العاص على البيزنطيين في سوريا، اقترح عمرو أن يسير إلى مصر، ووافق الخليفة عمر بن الخطاب وبدأ الغزو الفعلي في نهاية عام 640م عبر شبه جزيرة سيناء مع حوالي 4 آلاف من الرجال، ونجح في الاستيلاء على الإسكندرية التي كانت عاصمة لمصر لمدة ألف سنة، بعد معركة قوية مع البيزنطيين..، وتم التوقيع على معاهدة سلام بين الطرفين في أواخر عام 641م على أنقاض قصر في ممفيس.