تضعنا الحياة بين فكّي معضلات كبيرة لتمتحن مواقف الإنسان الوجودية الصّارمة من حيث اختلاف طبيعة الموضوعات التي تواجهنا، وتطالبنا في نفس الوقت باتّخاذ موقف محدّد إزاءها، ولعلّ جدل المثقف والسّياسة يمتثل لهذه الأطروحة، كون فعالية المثقّف الفكرية والإبداعية تفرض عليه تكوين رؤية للحدث السّياسي الذي يسير في مجرى وجوديتة الزّمنية والمكانية، أي راهنه الذي تعتلج فيه الأحداث عاصفةً في بعض الأحيان بما تَشَكَّل لدى المثقّف من قناعات حول الأشياء ومنها الفعل السّياسي ذاته، فهل المثقّف والسّياسة خطان متوازيان لا يلتقيان، أم إنّ طبيعة السّياسة البراغماتية والإجرائية تمسّ بعوالم المثقف الفكرية والإبداعية الحالمة؟ الثقافة والسّياسة، ثنائية تضع المثقّف والسّياسي في مواجهة مفاهيمية تكرّس لجدل السّياسي المثقف والمثقّف السّياسي، ومدى تحرّر كليهما من ألاعيب السّياسية والوفاء للمبدأ النّضالي الذي يستوجب الدّفاع عن حق الفرد في اكتساب صفة المواطنة، التي تحدّد وجوديته كعنصر فاعل داخل فضاء الحرّية والعدالة والكرامة، وبالتّالي، فوظيفة المثقّف أينما حلّ وكان، نقدية بالأساس ونضالية بحكم الموقف العقلاني/المعرفي إزاء قضايا العالم. بداية تستوجب معالجة موضوع المثقّف والسّلطة تحديد مفهوميهما القريبين من وعي ممارستهما، فالمثّقف يمثل العقل الذي يمتلك رؤية إزاء الأشياء التي تتحرّك في واقعه، ووعيا اجتماعيا وسياسيا، أمّا السّياسة فهي فن الممكن الذي يهتم بتسيير شؤون المجتمع والاهتمام بالشّأن العام، وضمن مسار التّعريفين يمكن التّساؤل حول المثقّف وإمكانية مساهمته في تسيير الشّأن العام؟ من حيث المبدأ لا يمكن أن يختلف اثنان حول ذلك، لكن من حيث الواقع، تطرح المشاركة السّياسة للمثقّف إشكاليات عدّة ليس أقلّها، تلك التي تتعلق بالمدخل التنظيري الذي لا يتنازل عنه وهو يخوض غمار التفاعل المعرفي والإجرائي مع ما يعرض له من مواقف تتطلب تَدخّله، فهل السّياسة البراغماتية والإجرائية في طبيعتها تقبل الرّؤية العقلية المعرفية للمثقّف وهو يصوغ تصوّراته في ما يتعلق بمجريات الشّأن العام الذي يلامس حياة النّاس وواقعهم المجتمعي؟ يبدو أنّ السياسي لا يريد أن يتقبل صورة المثقف وهو يجول في مكوّنات الحركة المجتمعية برؤاه العقلية ومداخله المعرفية، ولعل المقولة الدّارجة في الوعي المجتمعي الجمعي حول المثقف بأنّه مجرّد «حالم» و «شاعر» ومتفلسف»، تعبّر عن مدى لا استعداد السّياسة لكي تتقبل الكينونة الثّقافية كعامل من عوامل حركيتها، وقد تقبل به كديكور لتزيين محافلها، كالمواعيد الانتخابية الحاسمة. المثقّف عامل من ضمن عوامل المجتمع، وبالضّرورة يتفاعل مع أحداثه ومجرياته، وبالتّالي فهو يمتلك ما يساهم به في كل ما يحدث في المجتمع من تطوّر وتغيّر وحركة سياسية، وبالتّالي علاقة المثقّف بالسّياسة تختلف من مجتمع إلى آخر، فدولة مثل الولايات المتّحدة تتّخذ من تصوّرات مفكّريها الاستراتيجيين أساسا لممارسة الفعل السياسي، فروبرت كيغان وصامويل هانتنغتون وفرنسيس فوكوياما، جميعهم وآخرين يشكلون حجر الزّاوية في السياسة الأمريكية، وأيضا فرنسا كما هو الحال مع جاك أتالي، فهؤلاء المنظّرون يتأسّسون كعقول تفكك بنيات الفعل السّياسي وتعيد بناءها وفق مصالح الدّولة التي ينتمون إليها، وهو ما لا نجد له أثرا في مجتمعاتنا، فهل هو عزوف المثقّف أم تجاهل السّياسي؟ من خلال ما يحدث في الواقع، يمكن أن يكون للمثقّف رأي حول ما يجري تداوله سياسيا، لأنّه لا يمكن أن ينعزل عن حركة الراهن، لكن أن يندمج في أتون الممارسة السّياسية، هذا قد يمثل سلوكا غير مضمون النّتائج، وقد يؤدّي إلى: إمّا التصادم مع النّظام السّياسي الذي يرفض عملية المنهجة السياسية وفق تنظيرات العقل الرّؤيوي، وهذا ما أشار إليه هشام شرابي في كتابه «مقدّمات لدراسة المجتمع العربي» من «أنّ النظام الذي يغلق الأبواب في وجه مثقّفيه، يدفعهم للتناقض معه»، لأنّ ما تقوم عليه السّياسة أكثر هو مفهوم «المطبخ السّياسي»، وقد ينخرط المثقف ضمن الشللية السّياسية ليتحوّل إلى «مثقف السّلطة»، وهو ما يتنافى مع موقفه النّقدي المبدئي، وهذا ما يميّز بينهما، فالسّياسي بحكم الوظيفة تبريري، والمثقف بحكم الرّؤيا والرّؤية محلّل وناقد، ونجد حتى داخل المجتمعات التي تحتفي بالمثقّف داخل المحضن السّياسي، حدوث مثل هذا التناقض بين الموقفين، مثلما حدث مع المفكّريْن الأخلاقيين: إدوارد سعيد ونعوم تشومسكي، من خلال موقفهما النّقدي للمؤسّسة السّياسية الأمريكية القائمة على الهيمنة والتسلط. لا يمكن أن ينفصل إنسان عن السّياسة بمفهومها العملي الذي يستوجب التدخل اليومي لتحقيق المطالب الحيوية اليومية، فهي تدخّلات وفق «سياسة» برؤية ما للوصول إلى تحقيق الغاية اليومية ضمن الحراك الفردي داخل المجتمع، ولعل هذا يكون سببا في رؤية المجتمع للسّياسة على أساس أنّها لعب، فللسياسي ألاعيبه، وهي نفس ألاعيب الناس اليومية للتّحايل على المعيش وتحقيق الاستمرار في الحياة، والمثقّف حتى في هذه الحالة المبرَّرة يُعتبر أكثر حزما في التفكير داخل النموذج العقلي لإنجاز لحظة الحياة، ولهذا يتكلم ميشيل فوكو عن «المثقف الكوني» «الذي يجسّد الوعي الجماعي ويتكلم باسمه»، وأيضا أنطونيو غرامشي في حديثه عن «المثقف العضوي»، المنخرط في قضايا طبقة جديدة، يعمل من خلالها على تجسيد الدور الخلاق للمثقف على مستوى التّنظير والقيادة، فالمثقف مهموم طليعيا وأخلاقيا بقضايا الوطن والمجتمع والعالم، ولهذا فهو يمتلك زمام مبادرته الوجودية سواء المعرفية أو العملية من خلال ما ينفرد به من استمتاع بعالم الخيال والأفكار، وهو ما يمنح تجربته اغتناءها الوجودي، فتزفيطان تودوروف الذي كانت له إسهامات فكرية، سياسية/نقدية، للنّظام العالمي، لا يملك»الاستغناء عن كلمات الشّعراء، وحكايات الرّوائيين. يتيحون لي (كما يقول) أن أمنح شكلا للإحساسات التي أعانيها، وترتيب سيل الأحداث الصّغيرة التي تشكل حياتي»، وقد يكون هذا هو السّبب في فشل المفكر السوسيولوجي العربي برهان غليون في قيادة المجلس الوطني السّوري المعارض، فأن يكون المثقف فاعلا سياسيا، ليس بالمفهوم النضالي/الفكري، ولكن بمفهوم الممارسة على مستوى الفعل السياسي، معناه أنّه يغالب إحساسا عميقا في دواخله بشفافية وجوديته الحالمة والمتعالقة مع الأفكار والمخيال. إنّ علاقة المثقف بالسّياسة لا تقوم سوى على جسور الترميم الرّمزي لواقعية السّياسة النّفعية والإجرائية، فالعقل أداة الفكر التي تغوص عميقا في خفايا الأشياء بحثا عن الخدوش الدّقيقة لملامسة تفاصيلها ومحاولة لَحْمها بالنّهاية، فالسّياسي لا يعترف سوى بالوقائعية اللحظية التي يُعَبّر عنها بمفردات عملية ومباشرة، تأخذ في الحسبان ما يُراد تحقيقه في عملية مواجهة خَصْمية تعتمد اللعب والمناورة لتحقيق أكبر قدر من المصالح، والمثقّف لا تعنيه الإنجازات اللحظية بقدر ما تستولي عليه التحليلية القائمة على العقل، ولهذا - حسب رأيي - يفترق مساريْ المثقف والسّياسي عند حواف الممارسة والجدال القائم على البرهان والبيان. ما خلصت إليه، يجعلني أقف عند سؤال: هل عدم تلاقي مساري المثقف والسّياسة يعتبر موتا سياسيا بالنّسبة للمثقّف، باعتبار خوض السّياسي وحذر المثقف؟ على أيّة حال من الأحوال لا يمكن اعتبار حذر المثقف موتا سياسيا له، لأنّه لا ينفك يواجه مسار السّياسة بالموقف النّقدي والأفق المعرفي والثقافي، وخوض السّياسي في السّياسة يعتبر من خصوصيات وظيفته، ولا يمكن للمثقف أن ينازعه في ذلك، لكن البعد التنويري الذي يمسك بمفرداته المثقف، يجعله ملتزما أخلاقيا بالجدل السّياسي/الثقافي المبني على قواعد الحوار والنقاش، ولهذا خاض سارتر تجربة الانتماء للحزب الشيوعي والتي لم تستمر سوى لسنة. الحوار والنقاش اللذان يحاول بهما المثقف وفي اعتقاده العميق موازنة المغامرة والإجرائية والبراغماتية في السّلوك السّياسي، ولا أجد أعمق من سياسية جان بودريار في أطروحته حول العولمة، عندما اعتبر فكرة «ديزني» حالة مخترِقة للخصوصية، حتى أنّ «لاس فيغاس» أصبح يطلق عليها «ديزني لاند»، «الأرض المصنوعة من قصور مزيّفة»، فهل المثقف يواجه السّياسي كمحاولة لنفض غبار الزّيف عن أطروحاته النّفعية المصالحية؟