هنا، حيث الجرح يتكلم، يصرخ، يشق الصخر الصلد فاضحا المآسي التي يصنعها الإنسان!! مرعب هو الانتظار عند بوابات المجهول، وعتبات تتوجس همس الخطوات المتشبثة بالحنين وبحلم لا ينام. نظرات في نظرات في نظرات إلى ما لا نهاية. العيون تحبس السؤال في المحاجر، تبحث عمن يرتب المواجع بأبجدياتها وتواريخها، يشعل لها الشموع ويستجدي صهيل الألحان المنسية على موائد من استباحوا الزرع والضرع، وتفننوا في وسائل التعذيب والتوحش، ونزعوا للإنسان أسمى ما للإنسان، وفصّلوا بِدلا أنيقة لقامات الجريمة والمجرمين وأتلفوا ذاكرة الأشياء، حتى تلك الصغيرة منها، التي كان يمكن لها أن تنمو وأن تكبر وتعرش وتعانق السماء فاتحة للممكن والمستحيل كل سماء. وأنت، أيها المتربص بالحلم، الواقف مثل الحجر الصلد على نبض القلوب ولمسة الحنان الواجفة، تظهر القوة والجبروت وبطنك ينفخها سوس مخيف ينخر الذاكرة المصطنعة وتاريخ الزيف. ألم يفاجئك الصغار وهم يحملون الخرائط المغتالة والمفاتيح العتيقة وعلى جباههم تنام صور وملامح الآباء والأجداد والجدات المسحوقة عظامهم تحت آلتك الجهنمية. ألم تنتبه لصراخهم وغضبهم وهم يذكرونك بأنك أخطأت التاريخ وأخطأت المكان وأخطأت الزمان. ما ذنب شجر الليمون وشجر الزيتون وشجر السنديان وشجر الصنوبر، وما ذنب عطر الشيح والزعتر، ولبن الطير وبخور مريم وزهرة الحنون، إن كانوا قد زُرعوا هنا صدفة أو عمدا وامتدت جذورهم إلى قلب تربة أنبتت أجراسا وأهلّة وأنجما لا تصدأ ولا تذبل ولا تحول؟ ما ذنب أنبياء نُحتوا في أحجارها وخشبها ومائها وطينها ورملها وصدفها. ما ذنب هذه الأرض إن تعتقت، لأنها نبتت قبل أن ينبت الزمن وأينعت الحكمة في حجرها وتكلمت نورا وبهاء وهي ما زالت في المهد. ما ذنب أرض جهزت نولها، وركزت أعمدتها وسلت خيوطها من أرحام سخية تنسج ألوانها وترتب جدائل قوس قزح لمن سيفتّتون الحجر ويذوّبون القضبان بكل ما سكنها من فولاذ. لم تعد المقاعد تغري الأطفال ولا الصبورة ولون الطباشير. استعاروا الحيطان والأرصفة لرسم وجوه غابت وحناجر وألحان ترف بأجنحتها خلف أسوار تشبه وجه من شيّدها، باردة مثل قلبه وجامدة مثل دمه وعيونه الفارغة. أمهات يقفن بشموخ وكبرياء في وجه المجهول، ينتظرن مساءات غامضة وصباحات ربما لن تفصح عن خباياها. أمهات كنّسن الحزن وكدّسن الدمع وحنطنه للسنين العجاف. أمهات مسمرات في كل المداخل وفي كل المعابر المكتظة بوجوه عساكر مشبعة بالكراهية والحقد. كل واحدة منهن تنتظر يوسفا أو أكثر وهي لا تدري في أي جب رمي وأي الإخوة ضعف وخان. نساء فارعات الحزن، هنا وهناك ينتظرن منذ أن تشابكت بين أضلعهن ملامح السجان الذي تسكن أعماقه غابة سوداء وطحالب سامة. هن هنا يقلبن الأيام كمن يقلب صفحات كتب عتيقة، يواجهن المعلوم والمجهول بما يملكن من قوة وصبر وحكمة. سمعتهن في أماكنهن المعتادة وضمة إلى القلب تعتصر حزنهن، كل واحدة تصبّر الأخرى بكلمة بجملة بمثل شعبي أو بما درسن وقرأن أو حُفّظن من أحاديث وآيات. «يا الله تجبر بخاطرنا» « شو يصبرني عليك يا ضناي» « إن شاء الله يعودوا لينا سالمين» « إن مع العسر يسرا» « هو قضاء وقدر» «حسبنا الله ونعم الوكيل» «ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين» «الله لطيف بعباده» «رحمتك يا الله» « رحمتك وسعت كل شيء» « وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم»... « يخرب بيتك يا محتل» ... وترتفع الحناجر بالأناشيد والغناء لقهر الصمت «إنا باقون ما بقي الزعتر والزيتون» « خلينا نولد وفلسطين الحبيبة تاخذ» هن هنا، وهناك، يتوسدن الجمر في انتظار الفرج القريب الذي تمدد طويلا في القلب والذاكرة. ينتظرن إبنا لم يشبع بعد من حليب أمه أو زوجا أو أبا أو طفلة لم تحضن بعد كل لعبها، أو عروسة سحبت من مدرستها أو جامعتها أو من بين أحضان أهلها أو حبيبها. هو هكذا الظلم له أوجه وملامح تتحول حسب العرض والطلب. لكن لن يضيع حق وراءه طالب.