هذا العنوان مستوحى من كتاب طه حسين الموسوم:«خصام ونقد»، وهو يحيل، بشكل ما، إلى علاقة الإبداع بالنقد في فترة عرفت بجدل حاد ساهمت فيها نخبة من الكتاب والمفكرين والنقاد. هذا الواقع مستمر بشكل متدنّ، وهو يتقوى تدريجيا في ظل العلاقة الصدامية ما بين هذين المجالين في الوطن العربي، كما في البلد بالنظر إلى عدة اعتبارات، موضوعية وذاتية، ومرضية في بعض السياقات التي تستدعي تأملا عارفا بالخلفيات. النقد في الجزائر لا أفق له في هذه المرحلة غير المناسبة لإبداء الرأي في قضايا جمالية، وقد ينسحب تدريجيا من الساحة الفنية برمتها ليظل نقدا واصفا حبيس الدراسات الأكاديمية التي لا تهتم بثنائية التقييم والتقويم لتأسيسها على المناهج اللسانية الوافدة من تجربة غيرية لها مسوغاتها. كل المؤشرات المتواترة تؤكد أنّ النقد سينحسر أكثر فأكثر بسبب ظهور إبداعات سماوية لا تقبل الملاحظة، كما يحدث مع الأحزاب الشمولية التي لا تخطيء. والحال أنّ هناك تقاطعا كبيرا بين الموقف السياسي اليقيني، و بين مواقف المبدعين الذين يعتبرون النقد تحاملا على منجزهم، أو حسدا وغيرة وقلة ذوق ومعرفة: وهذه هي الكلمات التي أصبحت تغذي خطاب المبدعين في كل المجالات: السرد، الشعر، السينما، المسرح، الرقص، النحت، الرسم...الخ. هذا الإبداع القادم من الكمال لا يحترم القارئ إلاّ عندما ينحني أمامه شاكرا، ممجدا إياه كمنجز إلهي منزّل، أو كتجربة مرجعية يتعذر المساس بها من حيث إنها مكتفية بذاتها، ولا تحتاج إلى المتلقي المنبه. ذاك ما يميز الواقع الإبداعي في السنين الأخيرة: كتّاب ملوك ونقاد عبيد، ما يجعل القراءة غير نافعة، وليست ذات وظيفة تأثيرية يمكن أن تسهم في ترقية المنجز بالملاحظات المؤسسة على زاد جمالي لا يخرّب التجربة، بقدر ما يغنيها بآراء ذات علاقة بالفن والفلسفة، وبالكيفيات الممكنة. المبدعون يطلقون على النقاد كلّ الأوصاف التي ليست ذات علاقة بالجانبين الأكاديمي والعلمي، بقدر ما هي خصام مبنيّ على قضايا نفسية. ويمكن العودة إلى بعض التصريحات المثيرة، أو إلى ما ينشر على شبكة التواصل الاجتماعي من مواقف تجاه كل ما له علاقة بالشأن الجامعي، أو بالتخصص. الكتّاب والشعراء والرسامون والمسرحيون والسينمائيون أكبر من المخابر والمؤسسات، حتى عندما لا يعرفون كتابة جملة صحيحة إملائيا ونحويا وأسلوبيا وبنائيا، أو عندما لا يملكون قدرات تمييزية ما بين ما هو فني، و بين ما لا يتعدى حدود الإنشاء. لقد وصلنا إلى انسداد أصبح فيه الكتّاب والفنانون فقهاء مبتدأ وخبرا، مبدعين ونقادا ومنظرين وجمهورا وجامعة ومؤسسة ثقافية مستقلة، كما يحصل، على سبيل التمثيل، في الحقل المسرحي عندما يتحول المخرج إلى كاتب ومقتبس وناقد ومصمم أزياء ومهندس كهرباء، وعالم في العرض، أو عندما يغدو المخرج السينمائي إلها له كل المؤهلات التي تجعله فوق الجميع، إننا أمام ظاهرة مدمرة يمكن تسميتها: كلية الحضور وكلية المعرفة. لا يمكن تعميم هذا الموقف. هناك مبدعون مهمّون، وهم يبذلون جهودا كبيرة لترقية المنجز وتقويته على كافة الأصعدة، كما أنهم يقبلون، في حدود محدودة، بعض الملاحظات القليلة التي تأتي من النقد، وقد يبررون الفجوات بأجوبة تخصهم، رغم أنها ليست مقنعة دائما لأنها لا تبني على منطق سردي أو شعري أو بلاغي أو فلسفي، أو على قواعد لغوية متفق عليها من قرون. علينا أن نقتنع بأننا نبدع لقراء ومشاهدين متباينين، وهؤلاء أحرار في اتخاذ المواقف مما يعرض عليهم، كيفما كانت هذه المواقف. أمّا التباين فيعود إلى اختلاف الوعي والمنطلقات والأذواق والأدوات النقدية التي يتكئون عليها في قراءة المنجز، وليس لأيّ مبدع أن يمليّ شروطه على المتلقي، كما يفعل العريف في الثكنة، على أن يُخضع التلقي لضوابط مؤثثة معرفيا وفنيا قبل أن يحكم على جهد الآخرين، لأنه جهد يستحق الاحترام متى احترم نفسه. لذا ليس من باب الحكمة أن نطالب بكتابة مقالات نقدية على مقاسنا، أو بكتابة ما نريده نحن المبدعين. المؤكد أن الكاتب أو الشاعر قد يتجاوز قدراتنا وأدواتنا النقدية المتاحة، وعلينا الانتباه إلى ذلك تفاديا لقتل العبقرية التي لا تخضع لشروط غير مؤهلة لقراءة الإبداع وتقييمه، وهذا حاصل وسيحصل. بيد أنّ النقد العارف، مهما كان الأمر، سيظل ضرورة ملحة، بإيجابياته وسلبياته، أمّا إذا أعلن انسحابه من الساحة فسيترك مجالا للجماعات الضاغطة لإملاء ما تريده من قراءات ممجدة لكتاباتهم، وفق منظورها ومستواها، وذاك ما يتمّ تسويقه حاليا في ظل تقهقر الموقف الأكاديمي، وهو موقف يريد تفادي ردود الأفعال التي تتبناها بعض الجماعات الأدبية المسلحة التي وجدت أرضية خصبة لتمرير سلعتها وفرضها على القارئ كمستهلك لا حقّ له في إبداء الرأي ممّا يقدم له، بقضه وقضيضه. يبدو أنّ علينا أن ننتظر أعواما أخرى لإرساء تقاليد مبني على المعرفة، على جدال مؤسس فنيا ومعرفيا. أمّا اليوم فلا فرق بين رجال الأدب ورجال السياسة: كلّهم منزهون من الزلل، وعلى المتلقي أن يحفظ ويتعلّم. لقد عدنا إلى تقليد الحزب الواحد، وأمام النقد حلاّن: إمّا أن يكون في المستوى ويدرس الظواهر الفنية دون أحقاد ومجاملات، وإمّا أن يسكت أمام ما يُكتب حتى لا يكون مناوئا لهذا وذاك. هناك سياقات تاريخية تصبح فيها المواقف الشمولية تقليدا، وأمّا السبب فنعثر عليه في التاريخ والأنتروبولوجيا. ذلك أن النفسنة والجمعنة تقفان عاجزتين أمام استبداد الإبداع، رغم أنه قد لا يكون إبداعا، بالمعنى الحقيقي للمفهوم.