وأنا أضع قدمي على مطار برلين، ألمانيا بلاد هيغل وأنشتاين وروزا لوكسمبرغ وشوبنهاور وغوته وبرتولد بريخت وبتهوفن وباخ وشومان وغونتر غراس وفريدريك شيلر وعديد الأدباء والفلاسفة والفنانين، لست أدري لماذا تذكرت كلمة السياسي المحنك هلموت كول الذي حكم ألمانيا مدة ست عشرة سنة الشهيرة : -ليس لدينا في تاريخ بلادنا أشياء مهمة نفتخر بها ماعدا تحطيم جدار برلين. ترى ماذا لو سألنا شاعرا ألمانيا عن بلاده ؟! كيف سيكون رده يا ترى ؟ يبدو أن الشعراء لديهم رؤية أخرى مغايرة، فهم مثل الأطفال يتشبثون بتلابيب أمهاتهم حتى وهي منشغلة عنهم . تتجلى في ذهني صورة الشاعر والكاتب الداغستاني الشهير رسول حمزاتوف حين شاهدته وهو يفخر: -انظروا.. انظروا .. كم رائعون نحن الداغستانيين ! التقيتُ به في دمشق، كنت طالبة بالدراسات الجامعية العليا هناك. حدث رائع أن يجيء الشاعر رسول حمزاتوف حتى إليك، رسول حمزاتوف يجعلك من خلاله تطل على بلاد كاملة بتاريخها و أشجارها و أطيارها. إنه شعلة من النشاط. حيوي. لطيف. مؤدب. بطقمه الأنيق في البساطة. تئن أزراره المشدودة فوق بطنه وقميصه الأبيض الناصع وربطة عنقه الحمراء. رَبْعَ القامة كان. ممتلئا. بوجه أحمر مدور يشع بالحياة. وينم عن صحة جيدة، وغذاء شرقي ومتوازن. وهواء لم يؤذه التلوث بعد. بعينين عميقتين ثاقبتي النظرة. الخطوط التي تستقر بوضوح على حفافيهما تدل دلالة واضحة على أن الرجل ابتسم كثيرا في حياته. بهو المركز الثقافي يعج برواده، بالذين قرأوا الشاعر و سبق و أن استمتعوا بكتابه ( داغستان بلدي) مترجما إلى العربية. حدثنا عن بلاده وعن أدبائها وفنانيها وأبطالها وشخصياتها ونسائها الجميلات، و عن أشهر أنواع ورودها وأسماء أشجارها و أساطيرها و عن السيد علي ر.ض. المترجم الحذق المرافق له، على الرغم من دربته ومهنيته وقدراته اللغوية، إلا أنه بالكاد يستطيع أن يلاحق انهمار مطر حديث رسول حمزاتوف، الذي يشبه نهرا فاض وخرج عن سريره. حين أخذ كلٌّ مكانه من الحضور والضيوف، ومحبي الشعر الوافدين من المدن الداخلية السورية، ومن بيروت ومناطق أخرى، وهدأت قاعة المركز الذي كان يسمى آنذاك ب( المركز الثقافي السوفياتي ) ثم تغير اسمه بعد العاصفة السياسية التي أطارت سقف الاتحاد السوفياتي فأصبح اسمه (المركز الثقافي الروسي) . هدأ كل شيء تماما فجأة حين صعد رسول حمزاتوف منصة القاعة. ساد صمت عميق. الجميع ينتظر أول قصيدة بصوت حمزاتوف وبلغته قبل الترجمة. لكنه فاجأ الجميع حين سل الميكروفون وابتعد قليلا عن المنصة الخشبية الجميلة المنصوبة له وسط المسرح والتي كان يقف خلفها. كي يظهر كليا للجمهور. رفع رأسه عاليا ودفع صدره قليلا، وكأنه أيضا وقف على أطراف أصابع رجليه ليبدو أطول قليلا ثم قال: - انظروا إليّ .. كي تعرفوا أننا في داغستان جميلون وبصحة جيدة !!!!. هذا المساء، و أنا أضع قدمي على مطار برلين لأحيي ثلاث أمسيات شعرية.. تذكرتُ رسالة رسول حمزاتوف شاعر داغستان: أجل يا سيدي، الشاعر لا يمثل نفسه فقط. إنه يحمل بلاده في قلبه حيثما يذهب. فكلما تحرك، أو تكلم، أو صمت، أو رحل فإنه يفعل ذلك وهو يحمل بلدا كاملا معه و فيه. وأنا أضع قدمي فوق الأرض الجرمانية، أرض الفلسفة والموسيقى الراقية، كانت في روحي تتزاحم أرواح عديدة من بلادي من أپوليوس صاحب ( الحمار الذهبي) أول رواية في التاريخ البشري، إلى شاعرنا الأمازيغي السي محند أو محند مرورا بالأمير عبد القادر ومفدي زكريا وأبو القاسم خمار حتى الجيل الجديد الذي يفاجئ العالم بدرر النصوص.. ليس الأمر هينا ومع ذلك لم يعد سرا أن الشاعر بحساسيته وذكائه وثقافته وهدوئه و جنونه هو الأقدر على حمل وجه بلاده ليقدمه للناس في أبهى صوره. كم كذب هؤلاء الذين نادوا بنهاية الشعر، وأن لا شيء يرتجى منه. ألم يكذّبُهم جلال الشعر المضفور بالموسيقى حين افتكّ الشاعر الموسيقي بوب ديلان جائزة نوبل للآداب في جولتها الأخيرة. نعم. انتصار للإنسانية والخير والسلام أن يُنصت لصوت الشعر في زمننا هذا. زمان أنْكَرُ الأصوات فيه هو صوت الرصاص والمتفجرات والقنابل بكل أشكالها وأزيز الطائرات الحربية. نعم انتصار للإنسانية أيضا أن تُقْدِم مكتبة الكونغرس على تعيين شاعرة كسفيرة لها وللبلاد تتحدث عنها وتمثلها بين الشعوب والأمم. تلك المكتبة العريقة الثرية التي يفتخر عمالها و روادها ببهوها الاستثنائي المزين بأجود الرخام ذي الأصل الجزائري. مبادرة مكتبة الكونغرس تَحدّ لمَنْ يشيعون الشؤم و التشاؤم، وتأكيد أن ماهية الكتابة لصيقة بوجود الإنسان، وأن دور الشعر لا ينتهي ومازال يرتجى منه أن يحرك وجدان هذا العالم الذي أصابه العمى والصمم و الكراهيات.. - أيها العالم.. خذلتك قوة العنف وجبروت المال .. جرب ولو مرة قوة بتهوفن ورسول حمزاتوف وغوته و المتنبي وشركائهم. إنها القوة الناعمة، القوة الصلبة في رهافتها، فلن تحتاج أيها العالم إلى تحطيم الجدران.!