هل يمكن اعتبار بعض الحالات الوصفية والتشبيهات النمطية المنتشرة في كتاباتنا مجرد تكديس لتقنيات لا أهمية لها دلاليا ووظيفيا؟ يتفق المتخصصون في علم السرد على أنّ المشاهد والتوقفات تقوم بإضاءة الفضاءات والشخصيات والأزمنة التي لا يمكن الاستغناء عنها من حيث إنها جواهر ثابتة. ذلك أنها تسهم في ترقية الدلالات. كما يمكن، إن استعملت بوعي كاف، أن تبرّر الفكرة والموقف والإحساس والفعل والحدث. ما يعني أن الوصف، بنوعيه، ليس اعتباطيا، كما أنه لا يأتي عبثا لأن الكاتب أراد ذلك، أو كعنصر دخيل لا يخدم الحكاية بقدر ما يضخمها إلى درجات قصوى، دون أدنى سبب واضح لذلك، إن لم تصبح الأوصاف مملة ومنفرة بسبب المغالاة في الوصف الدقيق لكليات وأجزاء لا تقدم أية خدمة للحكاية. ما عدا إن كان الكاتب لا يعي جيدا ما وجب الاهتمام به، وما يمكن التخلي عنه للضرورة السردية، أو للاقتصاد الدال على مقاصد فنية. العينات التمثيلية عن الوصف الزائد كثيرة جدا في منجزنا العربي، بداية من كتاب زينب لمحمد حسين هيكل، مرورا بحديث الكروان لطه حسين وسارة لعباس محمود العقاد، إلى كتاباتنا الحالية. وإذا كنا نجد عدة أعذار للجهود المؤسسة، بالنظر إلى المسافة الفاصلة بين زمن الكتابة وزمن القراءة، وبالنظر أيضا إلى أنّ الكتابة الروائية، والقصصية بشكل عام، كانت في بداياتها الأولى، ومن ثمّ فرضية الوقوع في مطبات كثيرة يصعب تجاوزها في حينها، فإننا لا نجد ما يسوّغ انتشار الوصف بشكل عابث في بعض الأعمال الجديدة التي كان يفترض أن تكون، بالعودة إلى تجربتها وثقافتها السردية الحديثة، أكثر وعيا بمختلف التفاصيل الضرورية للنص، الشيء الذي لا ينسحب على التجارب الأولى التي لم تجد سندا تتكئ عليه. هناك عدة أسئلة يمكن طرحها على الكتّاب: ما الفائدة مثلا من وصف طاولة وصفا دقيقا جدا، أو كرسي ملكي فاخر من القرن السادس عشر، وفي عدة صفحات، بإيقاف السرد كليا، أو جزئيا، دون أن نجد لذلك وظيفة فعلية في المتن، ما عدا الرغبة في حشو مقاطع وصفحات لا طائل من ورائها؟ وما أهمية وصف أماكن جميلة لا تعني الشخصيات برمتها؟ ودون أن تبنى على علاقات سببية تبرز قيمتها في تحويل الأحداث والنفسيات؟ أو في التأثير عليها بنسب متفاوتة، أو في ملئ بياض ذي قيمة ما؟ ولو كانت أقل مما نتوقعه كقراء نرغب في إضاءات ذات معنى. إننا نقوم أحيانا بمحاكاة دور المصورين والرسامين والنحاتين، أو دور الكاميرا، بلا فائدة، مع أننا ندرك عجزنا عن تقليدهم لأننا لم نخلق لذلك، وليس من مهامنا الأساسية محاولة نقل المحيط الخارجي بطريقة إملائية، أو بواقعية بدائية، إن نحن استعرنا تعبير جان ريكاردو. ما قيمة تقديم شخصية حزينة تتجول في حديقة شاسعة ومستطيلة بها عشرون شجرة من التفاح والليمون والبرتقال وبعض الورد والياسمين والفول والزعتر والظلال الوارفة، وبها ماء زلال وما تيسر من الفاكهة والخضروات التي تسرّ العين وتأسرها، إن لم ينعكس ذلك على مزاج الشخصية وحركاتها وأفعالها ومعجمها وخطابها وصيرورتها؟ هل يمكن اعتبار ذلك مجرد محاكاة ساذجة للكلاسيكيين الكبار من أمثال بالزاك؟ يجب التأكيد على المعجم وطبيعة الخطاب لأن هناك فرقا بين السجن والمقهى والحديقة والحانة. كلّ حيز ينتج قاموسه الخاص به، ما عدا إن نحن لجأنا إلى المفارقات المقصودة للتدليل على الاستثناء، كأن ترقص شخصية ما أو تغني في مقبرة، أو تنتج ملفوظات منزاحة عن المعيار، لكنها مدروسة سلفا، كما فعل نيكوس كازانتزاكيس في رواية زوربا مثلا. ثمّ ما معنى أن نستغرق في وصف شخصية عملاقة ترتدي قميصا أصفر أو أزرق أو بنيا أو برتقاليا، ثم لا نجد في المتن ما يزكي طولها ولون ملابسها، أو ما يجعلها مختلفة عن الشخصيات الأخرى الأقل طولا ووزنا، ليس كمظهر، أو كبطاقات دلالية فحسب، بل كموقف وفعل، أو كقول وسلوك؟ لا بدّ أن المتلقي سينتظر بروز خصوصية ما، مفاضلة ذات قيمة سياقية، شيء مفارق يبرر الاختلاف الذي ركز عليه الكاتب أثناء التقديم. لكنه قد لا يجده، إن لم يعثر على تعارض حاد ما بين انفتاح المكان واحتفالية اللون وبؤس الشخصية، أو انغلاق المكان وانفتاح الخطاب، دون أن ينتبه الكاتب إلى الخلل الحاصل في العرض، كما يحدث أحيانا في المسرح عندما تكون السينوغرافيا والحكاية متضادتين بسبب قصور في الفهم، أو بسبب عزل النص والتنكر له كقيمة قاعدية في الركح، ومن ثمّ الاكتفاء بهذه الاحتفالية المفرطة، وهي فجوات متواترة في منجزنا برمته. للتفصيل الوصفي أيضا قيمة مهمة في العمل الفني، مهما كان جنسه. سألت يوما أحد المخرجين، بعد العرض المسرحي الباهت الذي كان غاية في الارتجالية، عن سبب ارتداء الممثل قبعة حمراء فاقعة، فأجاب: "هكذا". لقد أدركت آنذاك، كمشاهد فضولي له بعض الاطلاع على التقنيات المسرحية، أنه لم يكن هناك أي مسوّغ كاف لذلك، لا للقبعة ولا للون الأحمر، ولا لوجود هذا الممثل أصلا. ربما لم تنتبه الكوريغرافيا لهذا الخلل، شأنها شأن الكتابة الإخراجية. لكنّ تكرار الحشو في عرض كامل، أو في رواية أو قصة، رغم أنه يبدو بسيطا وثانويا، قد تكون له تأثيراته المدمرة، إن كنا نتعامل باحترافية مع المشاهد والقارئ، وليس مع اللحظة والمنفعة الآنية التي لا تقيم وزنا للعمل الفني في علاقته بنفسه، بانسجامه الداخلي، وبالمستقبل. لوصف الأجزاء قيمة وظيفية توحّد الموصوفات والخطابات في نوع من التكامل، أو في اتحاد استراتيجي عارف بنوعية العلاقات. لقد تحدث الناقد والمخرج الفرنسي فرنسوا تريفو في كتابه "أفلام حياتي" عن شيء لافت يخص هذا الموضوع المربك، خاصة ما تعلق بجزء من لباس الممثل في أحد العروض. لاحظ بذكاء فائق، وبجرأة، أن ثمة خللا كان يجب تفاديه في جزء بسيط من اللباس. بدا الأمر مثيرا بالنسبة للمعنيين بالمسألة، وكانوا مستائين من ملاحظته الشاذة. بيد أنه، في واقع الأمر، كان محقا، ونبيها، ذلك أن هذا التفصيل كان يحتاج إلى ملاحظات لتستوي هيئة الشخصية في علاقتها بالقول والفعل والمظهر، ولتصبح منسجمة ودالة. لقد أظهر هذا الجزء من اللباس خللا لم ينتبه إليه الهواة والمحترفون على حدّ سواء، رغم أنه حاصل، ومؤثر على بعض التفاصيل. ما معنى أن ترتدي شخصية بذلة سوداء جميلة وربطة عنق فاخرة ثم تشحذ في الشوارع، أو ترتدي شخصية ما لباسا رماديا رثا وتتصدق على الأغنياء: على الكاتب تبرير هذا التعارض بين المظهر والفعل حتى يكون الخطاب منطقيا، ومقنعا. ربما تساءل المتلقي المنبه عن سبب انتشار الألوان في العمل السردي، وبشكل فياض أحيانا: ألوان الملابس والأثاث والبساتين والأحياء والمقاهي والأشجار والزهور، وما إلى ذلك: قد يصف الكاتب الكراسي ولونها الأصفر الذهبي، شكل الطاولة ومساحتها ولونها وما فوقها من صحون وكؤوس وملاعق وأطعمة ومشروبات، أو أن يهتم مثلا بوصف لون البنفسج وهيئته ورائحته "الزكية"، رغم أنه يدرك أنه لن يقدم جديدا للقارئ، ولن يعلمه، على اعتبار أن هذا الأخير يدرك ذلك سلفا. ثمّ إننا لا نجد لاحقا وظيفة للون والشكل والعدد والمساحة في علاقاتهم بالمتون، ما عدا الإفراط في زيادة عدد الصفحات حتى يكون العمل الأدبي ضخما، متعبا، أطول من قدراته، وبلا أي تقوية دلالية، أي بلا فائدة. قد تكدس الأعمال الأدبية، بدورها، مجموعة من الأوصاف غير الضرورية للحكاية فتقلل من شأن الوصف الذي يفقد قيمته كضرورة نصية. أما أسوأها فهو الوصف المكرر الذي غالبا ما يأتي عندما لا يراجع الكاتب مؤلفه، أو لا ينتبه إلى أنه وصف أجزاء من المادة السردية مرتين أو أزيد، بمعاودة تامة، أو متقاربة، أو بتنويعات على الأصل ذاته، ودون إضافة نافعة تملأ فجوة ما، أو بياضا سابقا قصده المؤلف لغايات عينية تكشف عنها السياقات. عادة ما نجد هذا النوع من المتضخم في الكتابات الاستعجالية التي لا تراجع نفسها، وفي الكتابات التي تتخذ الحجم غاية من غاياتها المحورية، مع ما يمكن أن يحدثه هذا التكرار من تأثيرات على الجوانب التقنية، وعلى الأثر بشكل عام. العمل الأدبي مختلف عن العمل السينمائي. إنه ليس كيسا كبيرا يملأ بالتبن والنخالة، وما تيسر من الرثاث الذي لا ينفع، بقدر ما يضر بالكاتب، وبالقارئ الذي يضيع وقته في قراءة ما لا يثريه. هل كان أندري جيد محقا عندما دعا إلى التخلي عن الوصف التفصيلي للسينما؟ ربما كان من المهم الاكتفاء بالضروري، بما كان وظيفيا حقا، ثمّ ترك البقية للمتلقي لتفعيل خياله، لملء بعض الفضاءات بما يتناسب وقراءته واستنتاجاته.