عند قهوة العصر كثيرا ما تُردد الجداتُ الجزائريات بملامحهن الجميلة وهن يبتسمن بخجل، بما يشبه غرورا مستترا وهن يتبارين في مدح الجمال الذي لا تقدر على محوه رياح الزمن، فلا يتحتّت ولا يندثر. تنطق لآلة رحمة الزرهونية بصوتها الدافئ يشبه القطيفة بلون سماوي براق : - الزين يروح ويبقاو حروفو..! وترد عليها لآلة طاووس وهي تهز رأسها تتدلى من أطرافه متراقصة أصابعُ المنديل الأمازيغي: -أواه يا لآلة رحمة.. الزين مليح يبلى وما يطيح.! كنت أفكر في الجميلة. جميلة بوحيرد. للناس نصيب من أسمائهم. هي الجميلة وكأن الاسم نُحِت لأجلها. هي الجميلة التي روضت الوحش. هي الجميلة التي لم تنفخ شفتيها بالبوطكس، ولَم تسطر حواجبها بالإبر، ولَم تخضع لضخ الكولاجين ولا لشفط الدهون. مَنْ منكن يا نساء العالم تستطيع منافستها في الجمال.؟! مَنْ منكن جميعا. نحيفات وممتلئات وسمراوات وبيضاوات وحنطيات، وطويلات وقصيرات وربعات القامة، وطبيعيات ومصنّعات و معلبات. هي الجميلة التي لم تسْعَ كي تحمل تاج الجمال. هي جميلة العالم. جميلة الإنسانية في استمرارية التاريخ.هي الجميلة والسلام. ذاك الجمال الذي تمتد عروقه الحية في تربة الزمن الخصبة؟ وفي مفاصل التاريخ المضيء للإنسانية في نضالها من أجل الحرية، ضد القهر والظلم والتسلط والغباء السياسي . وسيظل جمال جميلة ينتعش عبر الأزمان، وينهض كل مرة من رماده مثل طائر الفينيقس العجيب، ليذكّر الإنسانية بإنسانيتها. اختارت جميلة بعد الاستقلال أن تعيش في الجزائر، بلدها الذي ناضلت من أجل حريته. لم تتناقض ولَم تُراوغ ولَم تنافق. أَعْلَمُ أن جميلة بوحيرد لا تحب الظهور الكثير و الثرثرة. أخبرتُ بذلك الأصدقاء الإعلاميين من العرب الذين يسألونني منذ سنوات، ويصرون على الاقتراب من جميلة الرمز. جميلة رقيقة مثل زهرة الياسمين، ولكنها عنيدة أيضا في اختياراتها مثل جبل شامخ ككل مناضلة حقيقية، وقد اختارت العزلة والصمت والابتعاد عن السياسة. إلا أن جميلة حين يحدث وتقرر بنفسها أن تخرج إلى الملأ فإنها تملؤه بهاء، وتزرع الأمل في نفوس المقهورين والحالمين من النساء والرجال. الحالمين بغد أجمل. وتعيد الثقة في قوة الحلم بالانتصار على التشرذم. الحلم بشفاء الأوطان التي أصابها الجذام وأصبحت مثل خرق ممزقة تتلاقفها الرياح العاتية. إن رؤية جميلة توحي للحالمين بالغد الآمن، بعودة الأوطان إلى هدوء شروق وغروب شموسها. مَنْ مِنَ الشعراء والأدباء والسينمائيين والفنانين التشكيليين والمسرحيين وصناع الجمال والجلال لم تلهمه جميلة بوحيرد بشعر أو قصة أو رواية أو مسرحية أو لوحة تشكيلية أو فيلم سينمائي أوكتاب، ليس في البلدان العربية وحدها بل في العالم كله.؟! لعل جميلة بوحيرد هي نفسها (النبية تتجلى في وضح الليل)، حاملة المصابيح في هذا الزمن المظلم . جميلة بوحيرد هي الأنثى الوحيدة الخصبة الحامل بالأمل في هذا الزمن الجاف؟ فيتعلق الناس بطرف ثوبها المبارك . الناس عطشى للأمل، وجميلة بوحيرد نافورة ماء الحياة المقدس، يتحلقون حولها، يستظلون بظلها خشية اليأس الخطير. جميلة لا تعرف اليأس بل إن اليأس يخشى جميلة ويهرب من أي المكان الذي تحل به. كرّموا جميلة بوحيرد منذ سنوات قليلة في بيروت. كرمتها قناة الميادين بوسام (جدارة الحياة)، فأقيمت الأرض والسماء بأقمارها وإعلامها ولَم تقعد. وبينما كانت جميلة صامتة، كانت الشهادات والخطب وقصائد الحب تمطرها من كل صوب. وهذه الأيام تكرم جميلة بوحيرد في مصر، إذ تتواجد ضيفة على مهرجان أسوان لسينما المرأة الذي تحمل طبعته الثانية هاته اسم جميلة بوحيرد. ثم يتفاجأ الجميع حين يتقرر أن يُرفع تمثالٌ للجميلة (جميلة بوحيرد) في وسط أحد شوارع مدينة القاهرة . كل هذا منعش للقلب والروح، فجميلتنا أصبحت جميلة العالم. جميلة التاريخ الإنساني الباحث عن الحرية المشتهاة. ولكن أين نحن من جميلة بوحيرد ؟ أين جميلة منا؟ إنها مغيّبة. كثير من شباب الجزائر يظنون أنها استشهدت، أو توفيت منذ زمن بعيد، ثم هم يتعجبون، حين يرونها أحيانا نادرة على شاشة ما، تحت سماء أخرى، بكامل أناقتها الهادئة وابتسامتها الواثقة وصمتها الذي يقول الكثير. لماذا لم يلتفت لها عندنا أي أحد من الرسميين و المسؤولين وأصحاب القرارات الصائبة والمصيبة ؟ لماذا لم تكرم حضورا أو حتى غيابا في أي من المهرجانات العديدة في الأركان الأربعة للبلاد ؟ هل أضحى الجفاء والتناسي والإقصاء من أمراضنا المحليّة بامتياز؟ ما الذي يحدث لنا ؟ ألم تعد لدينا عين حضارية تستسيغ الجمال الرائع كالذي في جميلة بوحيرد ؟ أم أنّ جميلةَ الحيّ لا تُعجِب !؟