سألني الكثير من القراء في المعارض العربية التي حضرتها هذه السنة بشكل خاص لتوقيع رواية: مي/ ليالي إيزيس كوبيا، لماذا لا أؤلف كتابا عن مي، وفي حبها ومأساتها، فهي إيقونة خاصة، لن تتكرر بسهولة؟ في كل مرة أجيب بلا تردد: الكتب عن مي كثيرة، ولا تحتاج مي إلى كتاب آخر يثقل قبرها. تحتاج مي أن تنفض قبرها وتأتي لتحتج معنا في وجه من ظلموها. تحتاج إلى رواية أو فيلم أو مسلسل ولا تحتاج إلى كتاب آخر في التاريخ. كتبت ُ عنها لأعيد لها حياتها الرمزية المسروقة. كنت أحتاج أن أجعلها تتكلم. أن أسمع صوتها المخنوق في مواجهة مأساة ظالمة. العصفورية سرقت عمرها، لكن أشباه الأصدقاء أيضا. مأساة مي كبيرة ومتعددة الجوانب. لم تكن فقط في الذين اقتادوها إلى العصفورية ولكن أيضا في من كانوا يحيطونها من عشاق أنانيين، ومحبين مزورين. الأنانية القاتلة جعلت كل واحدة يسحبها نحوه، أو يحلم بذلك، حبيبة أو زوجة، أو خليلة، قبل أن تفضح الوقائع بؤسهم الكبير. لا يكفي أن أن تعتنق الحداثة فكريا لتكون كذلك. الحداثة شيء آخر. أن تنخرط في الحداثة، يعني أن تمارسها وتقبل بإعادة النظر في يقينياتك، وفي جزئك الأناني والمتخلف. أن تكسر بجرأة كل البلادة الموروثة من الأزمنة الآفلة. جيش من المحبين كان يطوقها، ويحضر باستمرار صالون الثلاثاء بأحلى الماركات الفرنسية. ولكل واحد خططه للأستيلاء على قلب مي زيادة. لنا أن نتخيل قليلا امرأة واحدة في مجتمع ذكوري معتد بذكورة مهزوزة في أعماقها لأنها لم تستطع أن تصد لا الاستعمار ولا التيارات الدينية المتطرفة التي بدأت بالهداية الشكلية، وانتهت إلى الجريمة. كيف تكون هذه المرة بين من صنعوا الحداثة أو أقطابها. الأسماء تهز الجبال. طه حسين. صادق الرافعي. العقاد. سلامة موسى. يتناقشون في كبريات القضايا التي لم تحل في ذلك الوقت، الشرق والغرب، حرية المرأة. الحجاب ومشكلاته، قضية الاستعمار، التعددية الدينية في البلاد العربية وعقلية الهيمنة وغيرها من موضوعات الساعة. كل شيء كان يؤهل المكان ليكون مدارا للنقاش في مجلس الثلاثاء الذي لم يكن فقط للنقاشات ولكن أيضا لزحلقة الوريقات السرية، والرسائل القصيرة لمي زيادة التي كان السحر الثقافي يؤهلها لذلك إضافة إلى الجاذبية النسوية. أغلب رواد الصالون كانوا يتركون زوجاتهم في البيوت ويحضرون اللقاءات. كانت مي من الناحية الرمزية، اختبارا لقدرات المثقفين على تحمل امرأة مثقفة وقوية الشخصية، وتحمل المثقفين حرية مي زيادة. وبدأت المشاحنات السرية تطفو شيئا فشيئا، قصتها مع جبران؟ غيرة العقاد من جبران لأنه كان يبدو له أن جبران سرق قلب مي. الكثير من أصدقائها اقترح عليها الزواج شرط أن تبقى في البيت، بينما ظلت مي زيادة ترفض فكرة الزواج وهي المشبعة بالفلسفات العالمية التحررية، والأفكار الجديدة والأدب الفرنسي الذي دفعها الى الكتابة باللغة الفرنسية باسم مستعار، إيزيس كوبيا. فقد نشرت ديوانا بالفرنسية كما فعل جبران مع النبي. الفرق أن النبي نجحت، بينما لم تكتب مي إلا ديوانا واحدا هو أزاهير الحلم. أدركت في وقت مبكر أنها خلقت لتكون أديبة عربية، فانتهجت الطريق الأسلم الذي جعل منها اليوم كاتبة عربية مهمة. عندما رفضت طلبات المتقدمين السريين لها، عاداها كل واحد بطريقته. طه حسين لم يكلف نفسه الدفاع عنها عندما اقتيدت إلى العصفورية بتهمة الجنون على الرغم من نداءات الاستغاثة. بل دخل في حلقة المؤكدين على جنونها. العقاد غادر جلسات الثلاثاء أو الصالون بسبب انزعاجه من الكثيرين ومنهم الرافعي. وجبران. الرافعي توقف عنها بعد أن يئس من حبها على الرغم من دواوينه التي كتبها عنها. سلامة موسى الذي وظفته في جريدتها بعد تخرجه من بريطانيا، وقف ضدها بعداوة وأشاع عنها أبشع الصور. لم يرحموها حتى عندما وفقدت والدها وملهمها وحبيبها الذي ارتبطت به بقوة. ثم فقدت بعده جبران، قبل أن تنهار بشكل كلي بعد وفاة والدتها. وكأن الدنيا انتهت بشكل تراجيدي بالنسبة لمي. لم يعد هناك ما يهمها وبدأت تفكر في العودة إلى بيروت. في مكانها الديني الأول. وجاءت الجريمة التي أنهكتها عندها زج بها ابن عمها جوزيف إلى العصفورية قرابة السنة. هذه التجربة القاسية أكدت لها مرة أخرى أن من كانوا أصدقاء لها، انتهوا، وانتهت معهم بشكل تراجيدي قصتها. بينت الأيام أنهم لم بكونوا عشاقا نبلاء بل على العكس من ذلك. أصحاب قصاصات ورقية، كل واحدة تعلن حبا كاذبا لا يتجاوز الرغبة الجنسية الدفينة. وكان عليها أن تواجه مرارتها بكبرياء المرأة العظيمة حتى الموت. عندما عادت إلى اختارت العزلة القاتلة على العيش في دائرة النفاق. بقيت في البيت في وحدتها، حتى الموت. لا تستقبل أحدا الا رجال الدين الذين منحوها فرصة للخلاص من الأثقال التي كانت على عاتقها. أبدى لها طه حسين رغبة في رؤبتها، ضحكت وأجابته بمرارة: إذا أردت أن تراني عليك أن تتحول إلى قس. بدون ذلك لا يمكن. ورفضت استقباله. ماذا لو كُتِب لمي أن تنشر رسائلهم؟ ماذا سيخرج منها؟ سؤال سيظل معلقا إلى أن تفكه الأقدار والصدف.