يعتبر طاغور رابندرانات فوق أي تقديم تبسيطي بالنظر إلى مكانته، ويمكننا فهم هذه الشخصية (1861-1941) بالعودة إلى مصادر تشكلها. لم يكن شاعرا ومسرحيا ورساما وكاتب قصة فحسب، بل كان سياسيا ومصلحا وفيلسوفا ومتصوفا ورجل دين، وأكاديميا له تصوراته، وهي تصورات جادة باعتراف رئيسة وزراء الهند أنديرا غاندي. كان يمكن أن يصبح أحد المحامين أو القضاة، لكن ذهابه إلى بريطانيا لدراسة القضاء، جعله يهتم بالأدب والموسيقى، وبقي هناك سنة اهتم فيها بكتابات شكسبير وميلتون وبيرون وشيلي، كما درس الآداب العالمية:جوته، دانتي، بترارك، وعندما عاد إلى الهند كان على وشك أن يصبح أديبا، لم يكن رأسه مصنوعا للاهتمام بالقوانين. لكن طاغور اهتم بمسائل أخرى ستؤثر في أدبه ومواقفه ومسيرته برمتها.هناك أنوية قاعدية جعلته كذلك:الهندوسية المنقحة، الوحدانية، الطبيعة، العزلة، الخالق، الروح، الأغاني الصوفية، الحب الإلهي، التراث الحضاري الشرقي، أدب الخيال، الفلسفة، وهناك التأمل في الوجود. كان والده نشطا في الجمعية الدينية التي أسسها الكاهن الهندي الشهير راموهان راي، وقد سعى هذا الكاهن إلى إحداث تعديلات في الدين والسياسة والمنظومة الاجتماعية، مع تطهير الهندوسية من البدع والعادات الغربية، بما في ذلك ما تعلق بالحلول، *النرفانا * وانحرافات البراهما. ترأس طاغور جمعية *براهما ساماج*، وتشير بنودها الثلاثة إلى علاقتها الكبيرة بروح القرآن : في البدء لم يكن شيء، ولم يوجد إلا الواحد العلي الذي خلق الكون كله، إنه إله الحق والحكمة اللانهائية والخير والقوة، وهو خالد موجود في كل شيء، واحد لا ثاني له، في عبادته خلاصنا في أولانا وأخرانا. لم ينقطع طاغور عن الدين، لقد كان مهما في تنشئته، وكان أبوه يأخذه إلى دار السلام (حوالي 150 كم غرب كالكوتا)، وهناك في المعبد كان يقرأ الفلسفة ويذكر الخالق، قبل أن يقيم في كوخ جهة الهمالايا، ويتعلم من والده حب الحقيقة، الاستقلال في الحياة، الانغماس في عناصر الطبيعة والشعور بامتدادها فنيا، أدب البنغال وعلم الفلك.هناك على جبال الهمالايا عرف منعطفا آخر سيسم نصوصه، لذا شبه النقاد الغربيون ديوانه *أغاني المساء*بكتابات شيلي، أحد أقطاب الرومنسية الإنجليزية.بيد أنّ دواوينه اللاحقة ستنحرف عن طبيعة الرومنسية وروحها الانهزامية وخوائها، شأنها شأن مسرحياته التي أثثها بأبعاد فلسفية وبروح شعبية، مستفيدا بذلك من الآداب الغربية والآداب المحلية وتجربته الحياتية،وما تعلمه في المعبد،ومن الهندوسية. هل تأثر طاغور بالقرآن الكريم؟، قد نلاحظ ذلك بوضوح في قصائد بوشكين التي تتقاطع مع آيات كثيرة، لكن لا أحد من النقاد والمؤرخين أثبتوا تأثر طاغور بالقرآن رغم مجاورته له في عدة نصوص شعرية. *رباه*/يا ملك السموات/لقد أفعمت قلبي بحبك/و تجليت لي بقربك/رباه/لو لم أكن موجودا/فأين يتجلى حبك؟*. كما نجد إشارات إلى عظمة الخالق والطين الذي جبل منه الإنسان في تأملات صوفية كأنها من روح الإسلام، أو من كتابات المتصوفين العرب القدامى.لقد تجسد له الخالق في كل ما حوله و ما بداخله: *طوال أعوام عدة/وبثمن باهظ/جبت مختلف البلدان/ وذهبت لمشاهدة المحيطات/ ولكن لم أفطن/ إلى قطرة الندى المتألقة/فوق سنبلة القمح/أمام عتبة بابي/ يا مولاي.* كما أن الحقول المعجمية تشير إلى فكرة التوحيد، إلى الله أو المولى أو الخالق أو الرب، ليس بالمفهوم البراهمي، أو الهندوسي القديم، ولكن بالطريقة ذاتها التي قد نعثر عليها عند جلال الدين الرومي، أو عند ابن عربي. * لقد رحلت وحيدا/ في الدرب القاسي حاجا نحو الأمل/ ما أكثر الأيام/التي بقيت فيها بلا رفاق/ ومع ذلك ففي أعماق نفسي/ شعرت برحمتك.* وقد نجد في بعض أشعاره علامات دالة على معرفته بالقرآن، ومن المستعبد أن يكون ذلك مجرد صدفة ولّدها التأمل المتقدم: *أيها القلب المسكين/فلتفرح/إن أياما أخرى سوف تأتي/لقد أزفت الساعة...أيها الحاج المسافر...* و قوله في حديثه عن الموت: *إنك لتتألم وتبكي الأيام الغابرة/فغدا ستحاسب على ماضيك الحزين*. يجب التأكيد على هذه المجاورات الغربية التي لها علاقة وطيدة بالصوفية وبالثقافة الإسلامية، كما حدث مع باولو كويلو في الخيميائي.لكننا سنظل متحفظين بشأن اطلاعه على القرآن، إذ لا شيء يثبت ذلك، ما عدا بعض الاستنتاجات التي تحتاج إلى تدليل منطقي.ربما كانت للمهاتما غاندي (1869-1948) بعض التأثيرات، ولو أن غاندي توفي بوذيا، بيد أنه كان يحترم الإسلام و المسلمين، و قد قال عن الرسول صلعم :*أردت أن أعرف صفات هذا الرجل الذي يملك بدون منازع قلوب الملايين من البشر.لقد أصبحت مقتنعا كل الاقتناع أن السيف لم يكن الوسيلة التي من خلالها اكتسب الإسلام مكانته، بل كان ذلك من خلال بساطة الرجل مع دقته وصدقه...مع ثقته المطلقة في ربه وفي رسالته.هذه الصفات هي التي مهدت الطريق، وتخطت الصعاب، وليس السيف*. ربما كانت للرجلين علاقة ما بالموروث الإسلامي، لكن للهندوسية آثارها، خاصة بعد تخلصها من الممارسات الوثنية ونزوعها إلى التوحيد، أي بانتقاد تهميشها للفعل واتباعها مبدأ الاستغراق الذي يلغي الفاصل بين الخير والشر، وهو المبدأ الذي اتبعه المعدمون لبلوغ حالة الفناء في براهما، ومن ثم الانقطاع عن العالم. أما طاغور فكان في العالم، شاعرا ومفكرا ومناضلا.كان يخاطب طبقات الهند مستفيدا من أسفاره وتأملاته وتجاربه وقراءاته. كان يتوخى من وراء إنشاء دار السلام 1901، التي ستصبح جامعة تطبيق فكرته في التعليم:التوفيق بين الحداثة الغربية والأصالة القومية والبقاء في كنف الله والطبيعة. هكذا يتم تحقيق تقدم لا ينفي الروح والإنسان. وعندما كتب *انتقام الطبيعة* قال: إن موضوعها هو الموضوع الذي تدور حوله كل كتاباتي:لذة الوصول إلى اللامحدود في المحدود. قد تلخص هذه الفكرة منطلقات طاغور وقناعاته الفلسفية والحياتية. لقد كان *منارة الهند «كما يسميه المهاتما غاندي، مرتبطا بمحيطه وبالذات والذاكرة والموروث الشرقي الذي يسري في أشعاره. كانت فلسفة طاغور قائمة على الحب، قانون النفس العليا التي تستطيع فهم الوجود والانصهار فيه كقوة منتجة للجمال، وذاك ما يفسر أسباب إطلاقه على غاندي صفة *المهاتما*التي تعني بالسنسكريتية:الروح العظيمة. وقد نكتشف هذه الروح في الزورق الذهبي ومنية القلب وتشترا، وفي الأجزاء الثلاثة من ديوانه الضخم.بيد أن هذه الروح لم تبق حبيسة الورق. كان مؤمنا بما يقوله ويكتبه، وقد تلخص توجهه هذه الكلمة المختصرة التي ألقاها سنة 1916 بجامعة طوكيو، وهي توضح موقفه من الحضارة الغربية، كما تشير في خاتمتها إلى أمر مهم: الإيمان. *إنكم لا تستطيعون قبول الحضارة الحديثة كما هي.إن من واجبكم أن تدخلوا عليها التغيير الذي تتطلبه عبقريتنا الشرقية، ومن واجبكم أن تبثوا الحياة حيث لا توجد سوى الآلة، وأن تستعيضوا بالقلب الإنساني عن حسابات المصلحة الباردة، وأن تتوجوا الحق والجمال حيث لا سلطان إلا للقوة الغاشمة والنجاح اليسير. إن حضارة أوربا نهمة.إنها تبيد الأفراد والهيئات والشعوب التي تعرقل مسيرتها الفاتحة. إنها تستسيغ لحوم الآدميين، إنها آلة للطحن، تصنع الفراغ حولها وتركز جميع قواها صوب غاية واحدة: الثروة والسلطة، وباسم الوطنية لا تراعي الشرف. *إن حضارة تجعل دأبها أن تتمرد على القوانين التي سنها العلي القدير لا تنتهي إلا إلى كارثة*. كان طاغور ينظر إلى الهند كفنان وسياسي ومصلح وناقد.وكان هذا المعلم الحكيم، المتئد في تصريحاته،جريئا ومباشرا في مواقف أخرى.قال في كلمة بإقليم البنجاب: كانت الهند في زمن من الأزمان تسيطر على شؤون حياتها عندما كان وجدانها حيا، وعقلها نيرا يخترع أفكارا نافعة ويضع مبادئ صالحة(...)لقد خلق الإنسان ليبني عصره في كل زمن بقواه العقلية، وبتضحياته التي يفرضها عليه الحب العام الطاهر...* *وإن الإنسان الهمجي المنحط هو الذي يعيش على كل ما يقدمه إليه الغير.نحن معشر الهنود قد وقعنا في العصر الحاضر فرائس باردة لما ينتجه العقل الغربي. وسبب ذلك أننا فقدنا الثقة بقوانا العقلية. وليس هذا فحسب، بل يوجد بيننا أناس يرون الفخر كله في تقليد الغربيين دون أن يشعروا أنه ليس كل ما هو أجنبي نافع لنا، بل هناك أمور تلحق بنا ضررا بليغا.ولا يجوز لنا أن نفتخر إلا بعد أن نجود على الآخرين بما أنتجناه بأنفسنا*.هذه هي الحكمة.