إنه لأمر ممتع أن يحالفك الحظ وتحصل على كتاب بهذه القيمة الأدبية التي لا تضاهى. لقد اكتشفت الكاتب الأمريكي هنري ميللر (1891 - 1980) مصادفة في مطلع الثمانينيات، ولا أدري إلى يومنا هذا أيّ شيطان دلني عليه في خرائب الكتب. قرأت أغلب أعماله المثيرة للجدل. وكان هذا الأديب أحد أهم كتّاب القرن وأكثرهم تمردا وتخريبا وتنقيبا في دهاليز الفكر والتاريخ والحضارة والذات. لقد كان ملعونا وبوهيميا على طريقته المختلفة عن البوهيميات الأوروبية. ربما خالفناه في بعض التوجهات، وفي الطابع الصادم لكثير من الآراء «الفتاكة»، لكنه سيظل موسوعة سردية مذهلة. تساءلت أعواما عن مرجعياته. وإذا كانت هناك روايات تحيل على قسم من المشارب التي تدلّ على كيفيات تعامله مع الواقع واللغة والأفكار والموضوعات والرؤى المقلوبة، فإن مؤلفه «الكتب في حياتي»(دار المدى للثقافة والنشر، الطبعة الأولى،2012)، ترجمة أسامة مزلجي، يدلل بعض الأسئلة التي يجيب عنها بفوضى منظمة جيدا. «الكتب في حياتي» هو أحد أبهى المؤلفات التي على الجنس البشري أن يعتز بها، لأنّ هناك مخلوقا في الدنيا ينسج الجمل بذلك الوقار، وبتلك القدرات السحرية الخارقة، والمخيفة في الوقت ذاته. سحرية لأنها آسرة، ومخيفة لأنها قادرة على تقويض هدوئك وثقافتك وسردك، ووجودك برمته. لم يقرأ هنري ميللر سوى 5000؟؟؟ أي بمعدل يفوق كتابا في اليوم الواحد لمدة 13 عاما. دون الحديث عن الأفلام والمعارض والمسرحيات والعروض الفنية التي شاهدها، أو كان مشاركا فيها، وهذا وحده كاف لفهم أسباب وصوله إلى تلك الانتقائية المفرطة التي جعلته يتطاول على كاتب من نوع إرنست همنغواي، وعلى كتاب آخرين ذوي انتشار عالمي. لقد فهمت بعد قراءة هذا الكتاب لماذا قال في أحد مؤلفاته:«عندما أكتب أشعر أني جالس في قمة جبل الألب والناس من تحت كالحشرات». كان يحس أنه أصبح إلها إغريقيا: كاتبا وإعلاميا ورساما وموسيقيا وناقدا ومنقبا ولغويا وشاعرا ومسرحيا. ألا يحق لمن قرأ خمسة آلاف كتاب وبرمج سلسلة أخرى للقراءة أن يتباهى بنفسه؟ المعروف عن هنري ميللر أنه ابتعد عن التمثلات، عن التجريد العبثي، وذهب إلى الحياة، كما يريدها، وبدل التأسيس على النظريات والعوالم المثالية قفز إلى الدنيا محصنا بالقراءات، النافعة منها والضارة، تلك التي ساعدته على تأليف روائعه الجريئة، إلى أن استقل بذاته، كما لو أنه أدرك كلّ الأشكال والموضوعات فخلق عرشه الإستعاري. الكتب في حياتي لا يحدد الخيارات بدقة. ثمة نزعة هلامية وخزان من الآراء والمواقف، ولعلّ هذه الوفرة هي التي جعلته غير مستقر، كقراءاته ورحلاته، وكالعتبات والشواهد والتناصات الواردة في المقدمة وفي المتون. إننا لا نعرف تحديدا بمن تأثر، وتحت أية سلطة فكرية كتب. «إنّ التأثيرات الخاصة تبدأ عند حافة عهد الرجولة، أي منذ أن حلمت بأني أنا أيضا يمكن أن أصبح «كاتبا» ذات يوم. والأسماء التي تلت يمكن أن تعتبر إذن أسماء الكتاب الذين أثروا فيّ كإنسان وككاتب، وأصبح الاثنان متلازمين(...)إذا أسعفتني الذاكرة إليك تسلسل نسبي.. ص.174 وهذا التسلسل عبارة عن شلال من الأسماء من كلّ القرون والمذاهب والنزعات والفنون والديانات والفلسفات والآداب، من العهد اليوناني إلى أواخر القرن العشرين، مرورا بالبوذية والهند والتيبت والجزيرة العربية وإفريقيا. لكنه يقيم مفاضلات ويميل إلى القوة السردية والأفكار الاستثنائية التي يعثر عليها في الكتب المنتقاة بعناية، تلك التي يؤكد على قيمتها، ما لم يفعله مع كتّاب مكرسين نعتبرهم هالات. يقول عن الروائي والشاعر السويسري بليز سندرار:«لقد سدد إليّ ضربة مباشرة. ليس مرة واحدة، بل عددا من المرات...نعم يا عزيزي سندرار أنت أوقفت الزمن. لقد استغرق مني أياما، وأسابيع، وأحيانا أشهر، لأتعافى من تبادل اللكمات معك (...) أستطيع أن أشير إلى البقعة التي تلقيت فيها الضربة وأشعر بالألم القديم. لقد ضربتني وآذيتني....»ص.84 ذاك هو الإحساس الذي يستولي علىيه عندما يجد نفسه وجها لوجه أمام كتابات تستهويه فيعترف بفضلها. وما أكثر تلك المواقف، وما أقلها أحيانا عندما تلعب الدعاية لعبتها وترفع من شأن كتاّب بسطاء. إنها شهادات مثيرة عن أسماء كانت، بالنسبة إليه، ظواهر عجيبة رغم تهميشها من قبل دور النشر والمحررين والقراء. إنه يبدو كمن يحاكم الذوق والتاريخ. الكتاب كله مليء بمواقف من هذا النوع، إذ كلما اكتشف كاتبا مثيرا ازدادت قناعته بأنّ الحياة الأدبية مزورة. ثمة أمر ما وجب إصلاحه. هناك لورنس ورابليه وجيمس جويس ونيتشه وهرقليطس وسيلين والسرياليون والدادائيون وإمرسن وبوكاتشيو والمسرحيون الإليزابيثيون (باستثناء شكسبير؟) ودوستويفسكي (وكتّاب روس من القرن التاسع عشر)، وبالمقابل لا يمكن إغفال الهالات الأخرى. كذلك كان يفكر، وكذلك تحدث عن الكاتب الفرنسي جان جيونو وآخرين:«قبل بضعة أشهر كنت أقلب برفق صفحات كتبه، قلت في نفسي:«رقق رؤوس أصابعك، استعد للمهمة العظمى...منذ سنوات عديدة وأنا أروج لمزمور-جان جيونو. أنا لا أقول إنّ كلماتي لم تجد إلا آذانا صماء، أنا فقط أشتكي من جمهوري الذي أصبح محدودا. أنا لا أشكّ في أني جعلت نفسي مصدر إزعاج في دار(النشر)...»ص.140 يطرح الكاتب عدة قضايا متعلقة بالقراءة وسياسة الكتاب والشهرة والإهمال والمجد والكتب الساذجة. كما يتحدث عن المسرحيين الكبار وعن تجربته الفاشلة في هذا الحقل، عن الأشكال والموضوعات المهمة، ولو أنه يفعل ذلك ببعض التهويم:«ما هي المواضيع التي دفعتني إلى السعي وراء المؤلفين الذين أحببت، وسمحت لي بأن أتأثر، وشكلت أسلوبي وشخصيتي ومدخلي إلى الحياة؟ يسرد الكاتب سلسلة من الموضوعات: الحياة، السعي وراء الحقيقة، الحكمة، الفهم، الغموض، اللغة، عراقة الإنسان، عظمته، الأبدية، غاية الوجود، وحدة الأشياء، التحرر، الأخوة الإنسانية، الفكاهة، الجنس، السفر، النبوءة، السحر، الفن، الصوفية، المعتقد...ويضيف:«هل نسيت بعض البنود؟ ضعها بنفسك. لقد كنت، ولا أزال أهتم بكلّ شيء، حتى بالسياسة.»ص175. ومن الممكن أن تستهويه شخصية ما لا علاقة لها بالأدب، بقدر ما تكون ذات علاقة بالدروس التي استخلصها من أعمالها، ولأنه يعتبر كلّ شيء كتابا فقد استفاد من هذا وذاك. يتحدث هنري ميللر عن المهرج لو جاكوبس كما يتحدث عن أجمل المؤلفات التي أثرت فيه: «لماذا أشعر بأني مضطر إلى التكلم عن هذا الرجل المجهول؟ لأنه علمني، من بين أشياء أخرى، أن أضحك على المصيبة. تعرفت إليه خلال فترة من الكرب. كان كلّ شيء أسود، أسود، أسود. لا انفراج. ولا أمل في انفراج. كنت سجينا أكثر من رجل محكوم عليه بالسجن مدى الحياة.» ص.179 وبالمقابل فإنه يعرض عن ذكر أسماء كتاب مكرسين، وقد يشير إليهم ببعض الاستخفاف، مع أننا نعرف بعض الأسباب التي جعلته يتخذ مثل تلك المواقف المستفزة، الصادمة بالنسبة لقراء جيله. نشير إلى أن هذا الكتاب يمتلك، إضافة إلى الزاد المعرفي، قوة سردية كبيرة، وهي السمة الغالبة على كلّ كتابات هنري ميللر، بداية من مدار الجدي، مرورا بمدار السرطان وجبار ماروسيا، وصولا إلى شيطان في الجنة، وإلى الثلاثية المرعبة. وهناك قدرته على الإلمام بالتفاصيل، أو التبئير على تفصيل صغير ليجعله موضوعا قاعديا. إننا أمام كتاب يستحق أن يقرأ عدة مرات لأنه استثناء خارق.