« On ne devrait lire, disait Kafka, que les livres qui vous mordent et qui vous piquent. Si le livre que nous lisons ne nous réveille pas d'un coup de poing sur le crâne, à quoi bon lire… Un livre doit être la hache qui brise la mer gelée en nous » . يتزامن انتهائي من قراءة كتاب *الرحالة،هكذا رأيت العالم * للكاتب اللبناني سامي كليب،مع عيد ميلاد المطربة فيروز؛وهي تكمل عامها 83 بكل قوة وجمال وصمود وبهاء،مصرة على البقاء في بيروت رغم الحروب وفساد الساسة،وظلمهم لبقعة جميلة من وطننا العربي طغيانا وتدميرا لبلدانهم.كانت قراءتي للكتاب متزامنة ايضا مع قراءتي لكتب أخرى اقتنيتها من معرض الجزائر الدولي للكتاب في دورته 23؛والتي كان فيها سامي ضيف شرف بدعوة من وزارة الثقافة.كنت أركض بين الجامعة والمكتبة لإتمام كتب عديدة دفعة واحدة.تعودت أن أقرأ الكتاب الأقرب إلى فكري وروحي بهدوء وتأن وبطء.أشربه قطرة قطرة .أضمه نقطة نقطة،وأستمتع بسطوره ورؤاه ولغته التي تحفر عميقا في الوجدان. يقول دولوز الفيلسوف الفرنسي الذي أحببته كما أحببت دريدا وفوكو ونيتشه وهيدغر:*كل شيء يتوقف على قيمة ما نفكر فيه وعلى معناه.إن لدينا دائما الحقائق التي نستحقها تبعا لمعنى ما نتصوره،ولقيمة ما نعتقده*.هكذا قال الفيلسوف الرحال جيل دولوز الذي أبدى تقديرا لكل الرحالة والبريين والمشردين من المفكرين الأحرار. أبدأ من نهايات الكتاب ،أو من السيرة اللافتة لكاتب وإعلامي لبناني إبن الشهيد الذي قضى إثر الاجتياح الإسرائيلي على لبنان عام 1982.في هذه السيرة تتجلى الكثير من الأبعاد الإنسانية والثقافية ،والمناخات التي صنعت من سامي فكرا حيا يقظا مهموما بقضايا كبيرة،ومنتميا إلى وطنه وإنسانيته ،منفتحا على البشر والثقافات والحضارات والتجارب.قصة الحياة التي رواها سامي انطلقت من قريته الجبلية *نيحا الشوف* حيث مقام النبي أيوب،ومسقط رأس الفنان الكبير الراحل وديع الصافي.هنا يحضر الحب والكرم ،وجمال الطبيعة ،وعلاقات البشر الدافئة ،وتفاصيل الحياة البسيطة والهانئة.ويفيض حنان الأم ذات العين الخضراوين،والأب الموظف في قطاع الأجهزة اللاسلكية العاشق للغة العربية ،والحالم بمستقبل علمي لامع لابنه الذي درس في مدرسة الراهبات،وتشبع بالثقافة الفرنسية،واستشهاد الوالد لتكون باريس المرفأ والملاذ ، والحاضنة المعرفية والعلمية لاستكمال دراساته العليا في السوربون.سيكون الروائي إلياس خوري أحد الذين دعموا سامي في التسجيل بالجامعة رفقة مترجمة مغربية.كانت باريس الحبيبة الأجنبية الأولى التي بهر بجمالها وفتنتها وأناقتها ،مثلما بهر بحضور الثقافة والفن في كل تفاصيلها،وحجم السلام والأمان والحرية الذي نفتقده في أوطاننا العربية. كانت رحلة كشف ومغامرة رفدها ذكاء ومثابرة سامي في التحصيل والمعرفة والاستفادة من كل المنابع الثقافية.يروي سامي كل ذلك بنفس سردي جميل،ولغة صافية كصفاء هواء الجبال التي ترعرع فيها.منحته باريس فرصة العمل في إذاعة فرنسا الدولية،وعمقت شغفه بالقراءة والكتب التي يقدسها الفرنسيون،مثلما عمقت مغامراته وترحاله كطائر حر؛مثل ذلك العصفور الذي أطلق سراحه في طفولته بعد أن عالج جرحه،وفهم منه أن الحرية هي كل شيء.في الحرية كتب سامي ،وسافر،واكتشف ،واقترب من البشر في تنوع أعراقهم ودياناتهم وثقافاتهم ومراكزهم الاجتماعية؛بسطاء،سياسيين ،فقراء،حكام،رجال دين،مثقفين ،فنانين،معطوبي حروب وثورات وأنظمة ومعطوبي حب.لذلك نحن نقرأ ،ونكتب كما لو أننا نولد .كما لو أن أرواحنا تلتئم .ولهذا نحن نرى حين نقرأ أبعد مما هو موجود،ونلتحم بكتاب يستهله المؤلف بمقدمة باذخة الجمال والحكمة والانتماء والامتنان لأرض الثورة والبطولة ؛الجزائر.مستعرضا رحلاته الكثيرة إليها بدءا من عنابة التي اكتشفها في إطار نشاط شباب البحر الأبيض المتوسط،وتغطياته لأهم الأحداث التي مرت بها الجزائر.وصف الكاتب الجزائر ب*قسوة الجمال* متوقفا عند تفاصيل كثيرة إنسانية وجمالية في عنابة والعاصمة،وأحداث حارقة من تاريخ الجزائر الدامي فترة التسعينيات،ومأساة الحرب الأهلية،ثم تغطية زيارة شيراك لباب الوادي بعد الفيضانات.يتحدث الكاتب أيضا عن السينمائي الذي ساند الثورة الجزائرية ،وناصر قضيتها رونيه فوتييه،وحواره معه حول فيلمه الشهير *كفاح الجزائر*،وعلاقته بالجزائر وثوارها. مثلما توغل سامي في الجزائر،وعرف تاريخها وحاضرها،توغل في إفريقيا في رحلته إلى السينيغال،والصومال ومأساته في أشد الرحلات قسوة وألما بفعل الموت والجوع والفقر والحروب،ناقلا صورة الشعوب المقهورة المستلبة.أما موريتانيا فقد حظيت من الكاتب باحتفاء كبير ،وتقدير لتاريخها وتراثها الحضاري،وكذا رسوخ الشعر ،وتقديس الكتب في هذه الصحراء الجليلة.للمرأة حضور لافت هنا كفنانة ومثقفة على غير الصورة النمطية التي نحملها عن نساء المناطق المنسية والمهشمة؛مثلما كان لحضور السياسة الجانب الأوفر .الصوفية راسخة كذلك في موريتانيا كما في السينيغال كعلم ومعرفة وتسامح وانسانية.من جمال افريقيا وبؤسها أيضا نرحل مع الكاتب إلى قلب المارتينيك وسحرها وتاريخها المجروح بالعبودية واستعمار الرجل الأبيض لها لننتبه إلى جمال طبيعتها وبشرها بعيون سامي . من أجمل الرحلات التي تستوقفنا كقراء رحلة البرازيل ،واستعادة هجرة اللبنانيين إليها قديما.في ريوديجينيرو يتجاور الجمال والرقص والسيد المسيح في ربط بين الإيمان وأشكال الفرح والفن خاصة رقص السامبا،ومتعة اكتشاف شلالاتها وسدودها .الرحلة إلى البرازيل هي اقتراب أيضا من الجالية اللبنانية والمسلمة ،وحرية المعتقد في بلد علماني متعد الأعراق والديانات ،ومفتوح على السياحة.نقل سامي إلينا أحياء البؤس والفقر وشغف الحياة رغم المعاناة .كانت مدينة ساوباولو العاصمة الاقتصادية محطة أخرى للرحالة حيث يلتقي اللبنانيون والسوريون وانجازاتهم وإبداعاتهم هناك بدا أوطانهم. من الرحلات المميزة التي استفاض الكاتب في كتابتها ،واستكناه أسرارها الرحلة إلى كوبا.هي رحلة عشق بامتياز نظرا لحضورها الثوري والطلائعي في أجيال كاملة انبهرت بهذا البلد ونضالاته .هافانا التي تبقى استثناءا في تاريخ أمريكا اللاتينية.ننصت إلى نبض المدينة والشارع والأمكنة المختلفة،والطبيعة ونحن نستحضر تشي غيفارا، وموسيقى هذا البلد ورقصه ومشروبه موخيتو،ومزايا كثيرة تتعلق بتطور الطب فيه،وتصنيع الأدوية،وثقافة هذا الشعب الذي حارب الحصار الأمريكي،وصموده في سبيل الكرامة والحرية. في رحلة الأندلس يعبر الكاتب عن موقفه تجاه أرض احتلها العرب المسلمون لمدة قرون،وطلوا يرثون أمجادهم ،ويجلدون ذواتهم بالحنين إليها.ثقافة البكاء التي جعلت العربي لايتقدم خطوة واحدة. من تايلاند إلى المكسيك،إلى كندا ،إلى جزر القمر والمغرب بحثا عن آثار شيخ الرحالة ابن بطوطة.مرورا باسطنبول ومصر وتونس ،ثم سويسرا وبريطانيا وايطاليا وروسيا نتوه في أراض جديدة ،ونغرق في ثقافات مختلفة ،وروح المكان،نتوه ولابوصلة لنا ولا دليل إلا عين سامي الذكية ،وما اختزنته الذاكرة وسجله القلم.من أحداث وقصص هامشية وأسئلة ومعارف نكتشف فيها شغف سامي بالسفر والترحال.محملا بعدة معرفية وزاد من القراءات والتجارب التي تحيلنا على رؤية العالم من جديد،واستلهام تجارب الآخرين بالاستفادة من إرث البشرية ،وفهم طبيعة العلاقة المتشابكة مع الآخر في تنوعه واختلافه. بالقدر الذي استمتعنا فيه برحلات جميلة ومغرية بلغة صافية وحس سردي لكاتب عميق سيواجه القارئ ثقل السياسة الجاثمة في وعي العربي في رحلات اليمن والسودان والصحراء الغربية.وسنقرأ روبورتاجات غارقة في الهم السياسي عن بؤر التوتر والمآسي التي يرزح تحتها الوطن العربي.وسنقف في موقف حار ومؤلم في منطة كورو الواقعة في لاغويان الفرنسية حيث دشنت مصر قمرها الصناعي.كان هناك معتقل *ينفى إليه المحكومون بالأشغال الشاقة،ونفي إليه الضابط الفرنسي اليهودي درايفوس التي فجرت قصة اتهامه ،ثم تبرئته ،قضية كبيرة ،عبر التاريخ،في فرنسا،دفعت الكاتب الكبير إميل زولا إلى كتابة مقاله الشهير *إني أتهم*.اكتشف سامي في زيارته لهذا المعتقل كتابات عربية بخط قديم كتبها معتقلون جزائريون ناهضوا الاحتلال الفرنسي للجزائر.ويعود المعتقل إلى القرن 17 أبعد فيه مناضلون جزائريون منهم بوعلالي بلقاسم،صوفي عبد القادر،لخضر بن طاهر. هذا المكان هو دعوة للكتاب لنقل مأساة هؤلاء المناضلين وكتابة قصة بذور الثورة الجزائرية. يفرد الكاتب لدمشق ماكنا جميلا وعزيزا في كتابه مثلما يليق بها،وبلبنان عروس الشرق التي أحببناها وعشقنا فنانيها وكتابها وصحافييها.،ونقمنا على سياسييها الذين دمروها. لايمكن أن نمر على رحلة سامي إلى أمريكا .رحلة عبرت بحق عن أدب الرحلة.سماها الكاتب بلاد الأحلام والأوهام،بمدنها الصاخبة الباذخة،وتغول الرأسمالية فيها.يقدم سامي كل المعلومات الدقيقة بالأرقام ،عن أثريائها وشحاذيها ،عن تاريخها وثقافتها،عن رفاهيتها وطبيعتها الفاتنة.نرى أمريكا ماثلة أمامنا نحن الذين لم نبرح مكاننا. بعد كل هذا الترحال اللذيذ ،والمشاهدات المختلفة في أقاصي الكون يعود الابن الضال ابن لبنان إلى باريس.بعد كل رحلة مضنية وممتعة بكشوفها وحدوسها وتفاصيلها الإنسانية يعود إلى باريس أين عرفته هناك.وتطل فلسطين غائبة عن رحلاته.. حين أستعيد لقائي بالكاتب في باريس بالقرب من إذاعة فرنسا الدولية متحدثا إلى رفيقه بصوت آسر،وكاريزما لاتصنعها إلا الثقافة والتجارب والوعي.أتأمل تلك القامة المديدة والعينين الذكيتين ،وأهرب راكضة دون أن أحييه أو أشكره على كل ماقدمه للصحافة العربية المكتوبة والمسموعة والمرئية.أستعيد ذلك الهواء الجديد الذي تنفسته رئتاي،وتلك السماء الجديدة التي اكتشفتها صدفة؛وأنا هائمة في مدينة الدهشة.عليك أن تكون مغامرا حتى تستحق الحرية.الحرية عمل شاق ،ودرب ملغوم بالأسئلة .طلت أسئلتي عالقة ،وقلقي يخط كل ما يمكن أن يكتب.إلتباس الكلمات بالترحال وخط الهروب،تشتت الروح وهذيان الحمى حين تصيب جسدا هشا مهيئا للنزف.ثمة صمت.وثمة شعر يشع في الداخل كلما اصطدمنا بسر يجعل القراءة بعيدة عن كل بهرج أو إدعاء وأضواء.ثمة أيضا كتب تحتاج إلى عزلة حتى تقرأها بعيون أخرى.هذا الكتاب الذي رافقني منذ أيام من مكان إلى مكان ،ومن مدينة إلى مدينة بشغف ورغبة غي عدم الانتهاء منه والتلذذ بكلماته.وأنا أقول:كل كتاب لا يترك ندوبا في روحك وضوءا سريا بداخلك هو مجرد طيف عابر ،وجرعة مسكن سرعان ما يخفت تأثيرها ،تماما مثل رجل عابر في حياة امرأة عميقة.