أنا «يوسف الحيران « . - أهلا وسهلا ..تشرفت.. أقطن في هذه القرية الكونية التي تقع على كوكب الأرض. أنا واحد من قرابة ثمانية ملايير من السكان الذين ترزح تحت أقدامهم وتئن. وعلى الرغم من أن « الحالة ماتعجبش» ، إلا أنني صابر. أنا مسالم جدا. لا أوذي أحدا. ولا أسيء لمخلوق، ولكن العالم أضحى عنيفا، ويزداد شراسة كل يوم. لا أحد يحب أحدا. ولا أحد يحترم أحدا. حدثت لي أشياء كثيرة مؤثرة وغريبة، ربما سيأتي اليوم الذي سأحكيها لك « إن طالت الأعمار». ولأنني مسالم وأتجنب الصدام وأريد أن أعيش ما تبقى لي من العمر، أتأمل الحياة في انسكابها في هدوء، بعيدا عن السياسة وفخاخها. ولأن التنكر للأنا قمة الشعور بالإذلال، فقد قررت أن أهتم بأناي قليلا. قررت أن أطلب إحالتي على المعاش المبكر. فقد كنت أستاذا للفلسفة. وأنت تعرفين لم يعد أحد يهتم بالفلسفة. إنه اختياري وإن لم يعد أحد يحترم اختيار أحد. في الحقيقة أرى الحياة جميلة ولكن أغلب الناس لا يفطنون. لا أدري لماذا تزداد قلوب الناس من جميع الأقوام ضراوة . التزم شقتي الصغيرة التي ورثتها عن جدي. أقرأ الكتب وأستمع إلى الأغاني الكلاسيكية، ولا أفتح أبدا على قنوات الأخبار، ولا أطل على الشارع الذي ينتابه الضجيج و الجنون. أقرأ كثيرا وأتأمل و أدخن أحيانا وأشرب ولا آكل كثيرا، وتستهويني قراءة بعض القصائد عملا بنصيحة هيدغر القائل بأن الشعر يساعد على الانفتاح على العالم..عالمي أنا. ثم إن الشعر يرفض كل ما هو مستهلك ومباح. أليس كذلك؟ - بلى ..ما بها ساقك ؟ - لم أخبرك بعد ..؟ أنا لا أخرج من مسكني إلا نادرا، لكنني منذ يومين كنت مضطرا لذلك. وضعت كتاب الأخلاق لسبينوزا جانبا الذي أعيد قراءته على مهل، ثم نزلت لأشتري خبزا وبعض الضروريات، وما إن خطوت أول خطوة خارج باب العمارة، حتى وجدت نفسي وسط بحر متلاطم من البشر. إنها مظاهرة عارمة وغاضبة جدا. أصوات عالية جدا. وأذرع تلوح مهددة منذرة. لم أستطع التراجع ولا العودة إلى المدخل. كان الأمر قد قُضي والسلام. كنت أُدفع دفعا قويا نحو الأمام. الأصوات الرجالية والنسائية الصارخة الغاضبة تردد شعارات ضد بناء السور. لا أعرف أي سور يقصدون. لم أتابع الأخبار السياسية. في ظرف دقائق وجدت نفسي قد قطعت مسافات طويلة، مدفوعا أخوك لا بطل. لكزتني إحدى السيدات المتظاهرات، ثم ناولتني لافتة عريضة مكتوب عليها بخط كبير وباللون الأحمر بلغة أجنبية(ليسقط السور) وهي تقول: - ورينا عرض أكتافك . ما أن حاولت النظر إلى ملامح وجهها، حتى غابت بين الأمواج البشرية الهادرة المتدافعة. لم يبق لدي أي خيار. كان لا بد علي من رفع اللافتة إلى أعلى، حتى لا أتعثر بها وأسقط فتدوسني الأقدام. كنت أهرول غصبا عني رافعا اللافتة. مر وقت خلته دهرا إلى أن وصلنا إلى تقاطع ثلاثة شوارع وسط المدينة. حيث تتوسع الطريق. شعرت بأن الوقت قد حان كي أستغل فرصتي السانحة هذه، وأنسل من المظاهرة مثل الشعرة من العجين. بذكاء وحذر تركت خطواتي المتسارعة تبعدني عن المركز إلى الهامش، وعند رأس الشارع ،بصعوبة أقل، وضعت اللافتة جانبا ودلفت نحو الشارع المقابل. كنت سعيدا بإنجازي حقا. وقبل أن أتنفس الصعداء، إذا بمظاهرة أخرى آتية بصخب منقطع النظير من الشارع المقابل نحو التقاطع. وقفت مشدوها. لم تترك لي فرصة التفكير في الهرب. لحظات فقط ووجدتني وسط محيط من البشر، أحاول أن أرتب خطواتي على إيقاع الجموع السريع. كانت الشعارات تنادي ببناء السور. لم أكن أعلم عن أي سور يتظاهرون. قلت إني لم أتابع الأخبار السياسية منذ مدة. وجدتني أقرأ اللافتات والعرق يتصبب من كامل جسمي: « السور..السور «. حاولت وأنا أهرول أن ألجأ إلى تأويل ابن رشد للباطن، وإخراج اللفظ من دلالته الحسية إلى دلالته المجازية. لكن الشاب الذي يهرول بجانبي وهو يرسل فيديو حي على المباشر أفسد علي تأملي بصراخه العالي: - لا بد من السور لا بد من السور.. لا بد أن هناك الآن وعلى المباشر وفي الجهة الأخرى من الكرة الأرضية مَن يراني أنا يوسف الحيران. ثم تمتمت في صدري «وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه». شعرت بالتعب من الهرولة. تعثرت ساقي بشيء ما لكنني تماسكت كي لا أسقط وسط الجموع التي تنادي ببناء السور. لم أترك لحظة واحدة دون التفكير في كيفية التسلل خارج الجموع. أخيرا توقف الجمع أمام منصة عالية، لابد أنها للزعماء الذين سيتداولون عليها لمدح « السور». تسللت بصعوبة وبحذر حتى أصبحت خارج اليمّ المتماسك من البشر. تنبهت إلى أنني أصبحت بعيدا جدا عن مقر سكناي. سرت لوقت طويل في شارع هادئ وأنا أتلفت . وبعد أن استرجعت أنفاسي قليلا، إذا بضجيج مبهم يشبه صوت الأرض عند الزلزال يصل مسمعي. إنها مظاهرة نسائية عارمة قادمة بسرعة فائقة. الأصوات الناعمة تنادي بحقوق المرأة واحترام حريتها وإنسانيتها. الأذرع الرقيقة تلوح متوعدة. لم أترك لنفسي رغبتها في تأمل المشهد، بل وفي غمضة عين فكرت أن علي أن لا ألدغ من الجحر هذه المرة أيضا. أطلقت ساقي للريح والتجأت إلى أقرب عمارة. ردَدت الباب ومن شقه كنت أتأمل مئات الجميلات الغاضبات وهن يصرخن ويلوحن مهددات بمعاصمهن الرقيقة، تلمع الأساور حولها. مر بخاطري وصف السويديين لأدب النساء على أنه أدب الملائكة والسكاكين. بعد مرور مظاهرتهن بسلام، خرجت من مخبئي. - عمرك طويل يا يوسف. كانت ساقي تؤلمني بشدة. وبينما أنا ألعن السور، كل ما كنت أتمناه أن أصل البيت بسلام، وأشاهد مظاهرة النساء في نشرة الأخبار السياسية.