يهدف الشعر دائما إلى تجديد وعينا بما نعرفه. لذا يقول « هايديغير « ما مفاده أنه علينا أن نستعيد القدرة على الانبهار على أساس أنها أولى ضحايا المعرفة، ما المعرفة في نهاية الأمر؟ ، إنها الانخراط اللذيذ في حياة تورثنا الحزن والألم. التصاق بالأشياء التي تخوننا بمنهجية وفية. خيانة الأشياء التي تخلف الوجع. رحلة تبدأ بالفضول وتنتهي إلى النص: وجعي يطفو تأخذني الهواجس و السفر الحزين إلى حيث السياب و الجواهري ُ أبحث عن وجهي اللقيط عن نص يُشبهُني عن كتاب تركته هناك و عن أغنية أرى رائحة الجثث تفوح أسمع احتراق الأضلع والأجساد بلا رؤوس تسُجُد على ضفة مقصلة.. الشعر حالة غرور. انتفاخ للكلمات لأجل معالجة حياة قصيرة المدى بكلمات تدعي الخلود. تحلم بالمطلق. تنتشي وتعلم الانتشاء. قديما كان الشاعر شيئا شبيها بالنبي. وحق له ان يفعل في عالم ترتبط الأشياء فيه بالكلمات وهو يحمل الكلمات زادا ورحيقا. الشاعر كان سياسيا يتعامل مع الكلمات، يختزل ثنائي الفلسفة والسياسة: هذه ميدان الممكن وتلك ميدان للمستحيل. الشعر كان تربية على المستحيل. المستحيل المتحقق لغة بطبيعة الحال. تقول الشاعر في بعض ثنايا ديوانها: أشتاق لطفلة متمرّدة داخلي لضفائري للعبي و لكعك أمّي أشتاق لهدهدة اللّيل لدغدغة الصّبح لوجنتيّ و هو يخترق الثّقوب أشتاق لأتراب قاسموني اللّعب و الرّغيف لقهقهات المارّة و لوشوشات النّسوة و هنّ يقسن أطوال الطّريق أشتاق لحكايات والدي لمكتبتي و لأرصفة عانقت وجعي و لأعشاش هجرها الطّير فأضحت بلا رفيق أشتاق لحبيبات رمل أَلِفْتُها ففارقتني أشتاق ... أشتاق ... ستهيمن لهجة الاشتياق في الديوان لأنها الخبز الذي يهوى الشعراء أكله، وهو زاد عشاق الشعر. وإن كنا سنقف مرارا عند التراكيب الغريبة للديوان الذي يظل ديوانا شعريا مكتوبا بلغة لا شرقية ولا غربية، الم يقل مارسيل بروست ذات رحلة للبحث عن الزمن» الشعري» المفقود: «إن الأعمال الأدبية الخالدة كلها مكتوبة بلغة أجنبية بشكل ما» ... هذا الجانب الأجنبي الذي يتجلى من خلال ضرورة ابتكار أبنية لا تذكرنا بسابق قراءاتنا ولا ينبغي لها أن تفعل. إن الشعر العربي كحال الأجنبي كذلك وريث تقاليد كتابة عريقة لا مهرب للشاعر منها، وقد صارت تقاليد تسجن جيلا كاملا من الشعراء، جيل يشترك في الهم والغم والحلم والسياق التاريخي ونظام المسميات. لوائح تعبيرية قوية الحضور ننتهي إلى تسميتها بقاموس العصر، هذا الذي من شانه جمع شتات الكلمات والتعابير والإحالات التي عبر ابناء الجيل المعني بها عن وجدانهم العميق بها مرغمين بشكل ما في إطار ما يمكن أن نكنيه «بالحتمية اللغوية». وهنا يصبح دور الشاعر هو محاولة الانفلات من هذه الحتميات. وهذا ما تحاول نائلة فعله من خلال مقاطع كهذه: ما عاد الوجه وجهي صار مثل الرّيح بلا أشرعة و ظلّي تمرّد عليّ من أكون ؟! و أيّ الأكوان تضمّني ؟! اللّيلة أرغب في مراقصتي الموسيقى هادئة و الشّارع مزدحم أريد تصفّحي كأسي فارغة و السّماء تمطر ما أغبى هذا المساء ! لا فرحَ يثير الصّمت و لا الأشواق تراوغها الطّريق فارغة منّي أناشد السّحب أَوَهْما كنت ؟! أم وشوشات صاخبة ؟! ويحدث أن تتغلب على النص النفس الفلسفي فيجيء الشعر بيانات وأسئلة تعيد صياغة العالم والوعي من حول الشاعرة. النصوص الجديرة بتسمية الشعر كلها نصوص تحاول تشكيل أرضية جيدة للإدلاء بخرائط نفسية وثقافية على درجة كبيرة من التعقيد؛ خصوصا إذا ما كنا بصدد شاعرة هي امرأة تحمل كثيرا من جروح الوجود والتواجد. جرح الوجود المؤنث الذي نعيه ثقافيا كعطب في الهوية. تعالجه الشاعرة، من جملة معالجاتها الإبداعية البديعة، باتخاذ موقع الرجل المتغزل بالمرأة منذ الأزل فهاهي تتحدى إواليات التأنيث فتتغزل بالرجل حسب خريطة طريق شعرية جديدة،وإلى جانب جرح الوجود يمكننا رصد جرح التواجد؛ هذا الذي يستفرغ جراب الكلام بأشكال عديدة ...فالشاعرة تستقرئ تجاربها مع المكان، وتنطق عن ذاكرتها الشفوية المحملة بعناصر تنبو عن ثقافة شعبية عميقة تجاور الثقافة الدراسية او الثقافة الرسمية التي تتقدم دائما على أساس كونها ثقافة مضادة للثقافة الشعبية التي هي ثقافة الهامش. تختزن نصوص نائلة عبيد في لغتها الأصلية شحنة تعبيرية أو ربما شحنة احتباس تعبيري جديرة بالوقوف عندها، مع كل المعطيات اللسانية والدلالية والرمزية والتداولية المرتبطة بالذوق العام، بالسنن اللغوي والثقافي وبأنظمة الاستحسان والاستهجان المتحكمة في عمليات القراءة والتذوق والتأويل... وتمنحنا هذه التعددية في وجوه التشكيل النصي تعددية مستوياتية في القراءة تتحكم فيها خرائط المعنى المحتمل...معنى يغامر كثيرا ولكنه يفيء إلى حيث يفيء المعنى الشعري في ابهى معانيه: فتنة الكلمات والمعاني.