أشرت في عدة مقالات صادرة في بعض العناوين (السرد ووهم المرجع، علامات سردية، ومرايا عاكسة)، أو في مجلات وجرائد وطنية، إلى حقيقة الأدب الاستعلائي في علاقته بالمحيط الخارجي، أو بالسياق التاريخي والجغرافي والواقع والذاكرة الجمعية للأمة التي نكتب لها، وعنها. لقد ظلّ هذا النوع الحيادي، المنسحب من الشأن العام، عن قناعات قابلة للمساءلة، وهو حرّ، مع ذلك، في خياراته، ميالا إلى الترف الذهني، أو تابعا للمتغيرات الثقافية والسياسية التي لم يشارك فيها كطرف مؤثر، بقدر ما جاء بعدها بأعوام، أوأسهم في نقلها بشكل إملائي، أو ببعض التعديلات التي تدخل في صميم الفنّ، وليس في باب المشاركة الفعلية التي تبني الحضور، وليس على الأذن والأرشيف. الحراك الذي تشهده الجزائر الجديدة، بداية من 22 فبراير 2019، كان مستقلا، إلى حّد كبير، عن كلّ ما كان ذا علاقة بالفكر والأدب والجامعة والنخبة والنظريات الكبيرة التي راهن عليها أغلب المثقفين والكتّاب والشعراء، على الورق. لقد كان المجتمع مهتما بنفسه، وليس بالكتابات التي لا تعني سوى المؤلفين وحدهم، بعيدا عن إفرازات الواقع العيني الذي بقي، في أغلب الأحيان، غير معنيّ بالمنجز الأدبي الذي كان يخدم فلسفته وجمالياته ولغته وأشكاله السردية والتعبيرية من أجل ترقية نفسه، وليس من أجل ترقية المجتمع كجزء مهمّ من العملية التواصلية، أو التداولية التي لا تبني سوى على القناعات الشخصية، دون إشراك الأطراف المعنية بالخطاب. أشار الناقد رولان بارث، في هذا الشأن، إلى قضية مثيرة، وذات أهمية كبيرة إن نحن تأملناها، وذلك عندما تناول العلاقة المتبادلة بين المجتمع والأدب. لقد قال بنوع من المسؤولية: على الأدب أن يجرّ المجتمع، وليس العكس. ويقصد ما كان ذا علاقة بالسبق، وبالتنوير الذي لا يأتي تابعا للحركة الممكنة التي تشهدها المجتمعات، بقدر ما يمهد لها من حيث إنه، على الأقل من الناحية النظرية، أكثر وعيا وقدرة على الاستبصار والاستباق، وأكثر معرفة من الشارع والسوق. ومن ثمّ إمكانية قيامه بوظيفة مثلى كممهد للتغيير الممكن، قبل حصوله، وليس الحديث عنه بعد وقوعه، وبطريقة تجليه. أمّا ما حصل في الثورات العربية برمّتها، كما في الحالة الجزائرية أيضا، فإنّ هذا العكس هو الذي ظلّ قاعدة ثابتة، ومنطقا غريبا. لقد باغتت الثورات، بانتصاراتها وإخفاقاتها، مجموع الكتّاب والشعراء والمنظرين والعلماء الذين ظلوا، في أغلبهم، فوق انشغالات الأمة، مع المغالاة، بالنسبة للروائيين والشعراء والمسرحيين والقصاصين، في التحديث والتجريب والتبئير على الموضوعات الشخصية كجزء قاعدي من الاهتمامات الجديدة التي عدّت من باب ترقية الحداثة: الكتابة الإباحية على سبيل التمثيل، أو بعض القضايا الدينية التي عولجت باستخفاف، وبنوع من الانتقام، أو الفن من أجل الفنّ كخيار له مسوّغاته التي لا حصر لها. التعميم ها هنا إساءة لعدد معتبر من النصوص والابداعات المختلفة التي كانت حاضرة، ومؤثرة إلى حدّ ما. لم يسهم الأدب، مع استثناءات كثيرة، في إضاءة الواقع المعقد للمواطن العربي البسيط. ليس كمعلّم أو فقيه أو عالم كلي الحضور والمعرفة، إنما كموجه له دور ما في تنوير القارئ وتفكيك ما بدا له سديميا، أو في اقتراح خارطة طريق مضيئة، ومنطقية. لقد ظلّ الكاتب متفرجا فوق العادة على الخراب العام الذي ميز المجتمعات العربية في ظلّ هيمنة الأوليغارشيات المتسلطة. بل إنّ هناك من الكتّاب من أن يصبحوا امتدادا لها، منتمين أو مساندين، أو ساكتين عنها لأسباب مركبة، ومنها الاستفادة منها بأشكال مختلفة يمكن العودة إليها بالتفصيل في سياق آخر. لقد ظلّ بعض الكتّاب، هواة ومكرّسين، وطنيا وعربيا، متواطئين، تواطئا عفويا أو مقصودا، مع هذه الأنظمة الاستبدادية. لقد حدث ذلك بمستويات متباينة، كسلوك يومي، كموقف وككتابة، أو كابتعاد مبرمج عن الواقع السياسي الشاذ الذي كان بمقدورهم إدانته في الحوارات ومختلف الكتابات. فلاش باك من أجل التقوية: كانت العشرية الحمراء في جزائر التسعينيات من القرن الماضي قابلة للإدراك قبليا بفعل العلامات الدالة عليها، وعلى صيرورتها، ثقافيا واجتماعيا وسياسيا وخطابيا، لكنّ الأدب لم ينتبه إلى المتغيرات بفعل ابتعاده عن السياقات المنتجة للحالات والتحولات، أو بسبب مواقفه المسيسة قبلا. لقد كان يعيش في نوع من الوهم والأريحية، مركزا على الكتابة العاطفية، شعرا ونثرا، أو على الموضوعات الثانوية التي كانت قاعدية بالنسبة إليه لاعتقاده، حسب تصريحات بعض الكتاب والشعراء، أن التركيز على المجتمع لا قيمة له، أو أن الاهتمام بالشأن اليومي ليس من انشغالات السرد الحقيقية، وهو خيار قابل للجدل، مع ضرورة احترام حرية الكاتب لأنها الشيء الوحيد الذي يتيح له الكتابة خارج العلامات الضاغطة التي تقضي عليه. ستصبح هذه العشرية الحمراء، أو الفتنة الوطنية، صدمة مفاجئة للأغلبية الساحقة، وموضوعا لعدة قصص وروايات وأشعار متفاوتة الوعي والجودة، أي نصوصا واصفة لحقيقة تاريخية مدمرة. لكن هذا الأدب الناقل لم يتنبأ بشيء من قبل، ولم يسهم في التأثير والتغيير، بقدر ما غدا تابعا لقوى أخرى موجهة له، دينية وأيديولوجية، أو ذيلا لجماعات ضاغطة ترغب في تمرير رؤيتها، والأمثلة كثيرة جدا عن هذه النصوص التي وقعت في مأزق الموقف والرؤية العميقة للظاهرة، للعلاقة السببية القائمة، وللتفصيل الضروري لفهم الجذور المنتجة للفعل الراهن. لقد عاش الكاتب خارج الظاهرة الاجتماعية لأنه ظل ينصت لما تمليه عليه نفسه وظلاله الخافتة، وليس للصوت الجمعي، هكذا تجاوزه الواقع المتحرك، في الوقت الذي ظل منطويا على نفسه، وصدى لقراءاته وصوره واستعاراته. لقد فاجأ الحراك في الجزائر أغلب الكتّاب والشعراء والمثقفين الذين عاشوا في علاقة انفصالية مع المحيط الخارجي المخصوص، معتكفين وواهمين، وسيكتبون عنه لاحقا من خارجه لأنهم ليسوا جزء جوهريا منه، ولأنهم كذلك، لم يستطيعوا استباقه ولو بيوم واحد للتدليل على الوعي بالمتغيرات الفرضية التي يمكن أن تحصل في يوم ما. كانت النصوص شبه مستقلة، غير مبالية أحيانا، أو استعلائية بوضوح لافت لا يمكن نكرانه: شكلا ولغة وموضوعا ومنجزا. هل يمكننا الحديث عن غياب الوعي بهذه العلاقة؟ أم إن الأمر يتعلق ببحث الكتاب عن حريتهم في التعامل مع الموضوعات برؤى عينية؟ مع أنّ ذلك أمر مشروع، وخيار من الخيارات. لا يمكننا اليوم، في هذا السياق الاستثنائي الذي يعرفه البلد، تبني الحراك الشعبي، أو الاعتقاد بأننا أسسنا له أدبيا وفنيا، إن قبل الحراك تبني الكتّاب والشعراء والنخبة الباهتة في ظل انسحابها من المشهد وعدم قدرتها على تفعيل أدواتها بالانتقال من النظرية إلى الممارسة، من الورق إلى الواقع الملموس. لقد عاش بعض الأدب في أبراج شاهقة كمتفرج مسالم، باذخ، وغير معني بالأوليغارشية الحاكمة، وكان ذلك موقفا من المواقف الممكنة. الحراك إذن سيد نفسه، ولا داعي لمحاولة تبنيه أدبيا. يجب التأكيد على أنّ هذا النوع من الأدب المنسحب من الشأن العام هو الذي يتحدث عن ضعف المقروئية التي أشرنا إليها في مقالات سابقة. ربما راجع هذا الأدب نفسه في هذا الشأن بعد هذه الهبة المفاجئة للوطن برمته. الظاهر أنّ ضعف المقروئية، حسب فهمنا، ذو علاقة سببية بالموضوعات والمواقف التي يمررها هذا النص الذي لا يهتمّ بالمتطلبات الفعلية لمحيطه، مع أنه حر في ذلك. لكنه، بالمقابل، ليس من حقه الحديث عن القارئ الذي لا يكتب له أصلا، بقدر ما يوجه خطابه لمتلقّ آخر لغايات كثيرة، نفعية مثلا، أو مادية محضة في بعض الحالات. أمّا النقطة الأخرى التي وجب الإشارة إليها، دون تردد، فتتعلق باختفاء بعض الكتّاب عن المشهد العام، أو بعدم التصريح بمواقفهم من الأنظمة الفاسدة التي أغدقتهم بالامتيازات والتكريمات. لا أتحدث عن الكتابة في حدّ ذاتها كفعل قد يكون ذا هوية مستقلة لأسباب تخصه وحده، إنما عن مختلف تصريحاتهم التي ركزت على قضايا أخرى لا علاقة لها بالمجتمع وانشغالاته. لقد كانوا غائبين ومرتاحين في صمتهم اللافت، إلى أن أيقظهم الحراك العظيم الذي سيكتبون عنه كمجاهدين، وككتاب كبار يعرفون كلّ شيء عن كلّ شيء، وتلك مشكلتهم، ومشكلة الأدب الطيب الذي يكتفي بالتفرج على الأحداث، دون أن يتخذ موقفا من الشرّ الأعظم، ثمّ يلعب دور البطل بأثر رجعي.