قد يقف المتدبر لكتاب الله أمام آياته ناظرا في سياقها الدلالي، متسائلا عن تجاور كلماتها في نسقها التركيبي، فيخيل إليه تباعد ما بينها في الدلالة. وكأن الحديث فيها ينتقل من موضوع إلى آخر انتقالا فجائيا. بيد أنه لو تريث قليلا لينظر ويتدبر، فقد يفتح الله له فيها من المعاني ما كان خافيا مستترا، لا يمكنه الوصول إليه إلا بشيء من التراجع وراء. كالذي يتأمل منظرا طبيعيا في لوحة زيتية.. يقترب خطوات ليدقق النظر في التفاصيل، ثم يبتعد أخرى ليشمل المنظر في رؤية تركيبية واحدة. ذلك هو الشأن مع قوله تعالى في سورة الغاشية: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21)} [الغاشية : 17 - 21] فقد جاء الأمر إلى رسولنا الكريم يطالبه بالتذكير بعد أن عرض الله عليه سلسلة من الآيات وعجائب الخلق، جمع فيها: خلق الحيوان، وخلق السماء، وخلق الجبال، وخلق الأرض. وفي كل آية منها عرض إلى هيئة من هيئاتها، فكان للإبل منها الخِلْقة (بكسر الخاء) التي يجد فيها العربي وغيره ممن يعرف الإبل آية الصبر والتحمل، وكان للسماء الرفعُ والعلو، وكان للجبال النَّصب والثبات، وكان للأرض البسطُ والتسطيح. ثم عقَّب بأمر التذكير.. وكأن المُذكر بدين الله، أو الداعي إليه يجب أن تتوفر فيه هو الآخر هيئات وصفات، فيأخذ من الإبل صبرها وتحملها، فلا يلين ولا ينكسر، وإن طال الطريق، وتعددت المشاق، وتنوعت الصعاب، ويأخذ من السماء رفعتها وعلوها، فلا ينزل إلى خشاش الدنيا، ولا يتهافت على بريقها، ولا يطمع في زائلها ومرذولها، ويأخذ من الجبال ثباتها وشموخها، فلا تزعزعه المحن، ولا تزلزله النوازل. ويأخذ من الأرض انبساطها وسهلها، فيقبل على الناس بوجه سمح، وقلب سليم، وإسوة حسنة.. وكلها صفات وهيئات جسدها النبي محمد صلى الله عليه وسلم في خلوته وجلوته، وأخرج للناس منها مثالا حيا للرسول المذكر غير المسيطر. وتشبه بها آلاف من الرجال والنساء عبر الأزمنة والتواريخ في حضارة هذه الأمة... والله أعلم