قبل سنين زرت قسنطينة بحثا عن بيت الكاتب مالك حداد (1927 1978) من أجل استطلاع للأثر الأسبوعي الذي كان تابعا لصحيفة الجزائر نيوز، قبل أن يتمّ غلقها، وكنت أنشر آنذاك صفحة بعنوان السرد بالصورة. كان الملحق الأدبي راقيا بكتّابه وأقلامه، وبما كان ينشره من دراسات وقراءات حرة، ثمّ انطفأ، كما يحدث للأشياء الجميلة عبر تاريخنا. أذكر أني كتبت آنذاك مقالا مطولا بعنوان " سرّ الأبواب الزرقاء"، آلمني أنّ سكان هذه المدينة لا يعرفون الكاتب، رغم أني سألت عنه القاصي والداني، ولا يسمعون عنه شيئا، كما لو أنه لا حدث أمام الدفّ والكرة والانشغالات الجديدة. كان ذلك، بالنسبة إليّ، أمرا مأسويا لأنّ هذا الروائي نشر هالات سردية وشعرية مثيرة، وذاع صيته عالميا، وقد تأثر به عدة كتاب جزائريين ممن عرفوا قيمته الأدبية والشاعرية، ومن هؤلاء الكاتبة أحلام مستغانمي في طرائق التصوير، وفي بعض الأساليب والمشاهد الجميلة، خاصة في رواية ذاكرة الجسد،، من يقرأ لمالك حداد يجب أن يعجب بمستواه وشاعريته، ما عدا إن كان لا يفهم ما يقرأه، إن كان سطحيا، حسودا، أو عديم الذوق. حدثت تلك الزيارة إذن في صبيحة إحدى الجمع، وكانت قسنطينة، بلد العلم والعلماء والأدباء، وموطن العلاّمة عبد الحميد ابن باديس والكاتب أحمد رضا حوحو، تستعد للقفز في وادي الرمال رغبة منها في الانتحار لتتطهر من أدران الواقع، أو تكفيرا عن ذنب ارتكبه غيرها. هكذا ظللت أراها من خلال شكلها الذي كشكل سلحفاة على جبل صخري مخيف، ومع ذلك أحبها مالك حداد والطاهر وطار، وهامت بها الكاتبة أحلام مستغانمي، وغيرها من الشعراء والمبدعين. ربّما كانت هناك أسرار لم أكتشفها إلى حدّ اليوم، ومع أني زرتها مرارا فلم أرتبط بها لأنها كانت تبدو لي مناوئة، ومحاصرة من أشباح غامضين كانوا يهددونني باستمرار. لقد كانت جسورها مرعبة، كعلوّها الذي كان يتسبب لي في ضغط غريب. كيف كتب عنها الطاهر وطار رواية الزلزال بتلك المهارة الفائقة؟ أذكر أني عثرت على منزل الكاتب بعدما سألت عشرات الأشخاص الذين لا يعرفون ابن المدينة، وإحدى مرجعياتها المكرسة إبداعيا، هناك في أعلى الجسر المعلق كانت تشرق آثار الكاتب المنسية، وأوّل ما لاحظته الأبواب والنوافذ الزرقاء التي كتبتُ عنها لاحقا دون أن أفهم مقصدها الحقيقي. استقبلتني العائلة بحفاوة، كان استقبالا شرقيا راقيا، ومؤثثا بالأحاديث المتنوعة عن الحياة والأدب، وبتلك الرسالة التي بعث بها الكاتب إلى ابن أخته قبل خمسين سنة، وبخط لاتيني جميل. ربّما كنت أول من زار البيت ليكتب عن صاحب رصيف الأزهار لا يجيب بعد أعوام من رحيله المؤلم. كذلك قيل لي. حاولت آنذاك الاستفسار عن كلّ شيء يعنيني، عن حياته وموته وعلاقاته ومكان جلوسه وشعره وسرده ومرضه وفكره. لأول مرة أعرف أنه كان صديقا للرئيس هواري بومدين، وكان يحترمه ككاتب، وكقيمة أدبية وإنسانية، وكانت للرئيس معه حكايات طريفة، ومنها قصة إرساله في مهمة إلى إفريقيا ببعض الفرنكات الرمزية، وإذ سأله الكاتب مازحا، أجابه الرئيس:يكفيك هذا المبلغ الزهيد لأنك مالك حداد. وجدت البيت المنعزل في الضاحية كما تركه الأديب قبل سنين خلت. كما عثرت على مكتبه الذي لم يذبل بعد، الكرسي، الأواني، الأثاث القديم، الألوان، وكانت له في الحديقة المتاخمة غرفة مستقلة كان عادة ما ينزوي فيها أياما لقرأ ويكتب وحيدا، معزولا عن العالم والأسرة، يخطّ صفحات ويمزقها ليلا، كما لو أنه لم يقتنع بملكته التي ستتجلى في ديوانه الموسوم: الشقاء في خطر، وكان ابن أخته يجمع صباحا ما ألقى به خاله من أشعار ومسودات في سلة المهملات، كأنها سفاسف لا تستحق القراءة، وليست مؤهلة للنشر. لقد كان مالك حداد يتجاوز نفسه باستمرار، وكان يصنع النص كالنساج والحرفي. لذلك جاءت أشعاره ونصوصه الروائية مفارقة للمعيار، كاستعاراته العجيبة التي لا يمكن العثور عليها عند كاتب آخر لأنها من خصوصياته. لقد عاش فلاّحا ومعولا. يغرس ويقتلع غرسه، كما لو أنه رافق الشاعر السوري محمد الماغوط الذي قال ذات يوم معبرا عن قلقه المتزايد:« في فمي فم آخر، وبين أسناني أسنان أخرى، من أصافحه في التاسعة، أشتهي قتله في العاشرة، أصابعي ضجرة من بعضها، وحاجباي خصمان متقابلان". ترك مالك حداد، حسب عائلته، مخطوطات لم تكتمل، وهي معروفة، وأخرى لا نعرف إلى أين ذهبت تحديدا، ولماذا لم تنشر بعد كلّ هذه الأعوام احتراما للأمانة، وللجهد الذي بذله لتكون كتبا. هل ترك وصية ما؟ كلمة؟ لقد عاش هذا الكاتب محاصرا، وتوفي كذلك لأنه كان يكتب بحكمة، وبعبقرية استثنائية، دون أن يكرّس أيديولوجية ما، باستثناء مواقفه النبيلة من العالم المتدني، ومن القيّم الإنسانية التي دافع عنها بأفكار فلسفية عميقة لم نولها أهمية. مع ذلك لم يطلق سراحه بعد سنين من رحيله متأثرا بالمرض الخبيث، كما لو أنه ظلّ ينافس الكتّاب من قبره، غير آبه بالموت والنسيان. لذلك أغلقوا عليه كلّ المنافذ حتى لا يذيع صيته فيغطي على جزء كبير منهم، وعلى كثير من الذين لا موهبة لهم، أولئك الذين فرضهم الإعلام والأموال والعلاقات والمناصب، دون أن يكونوا مؤهلين لتمثيل البلد في محافل ليسوا في مستواها. الصدف والسياقات التاريخية هي التي ظلت تقرر، وليس الفنّ الذي كان يجب أن نركز عليه في التقييم، في النشر والترجمة والقراءات النقدية والدراسات الأكاديمية المتخصصة. لقد عاش مالك حداد، في بيته المشرف على قسنطينة، مثل الصوفي والزاهد في خلوته النائية، خاصة في أيامه الأخيرة التي أوهنته، وكان شديد الحرص على احترام النواميس التي لم يكن يؤمن بها كثيرا بالعودة إلى طبيعة ثقافته وتكوينه. ربما فعل ذلك ليبقى منسجما مع محيطه الخارجي المحافظ، حتى لا يبدو شاذا، وخارجا عن الطقوس والأعراف التي كانت سندا للمجتمع، مرجعا له ومأوى. وموازاة مع ذلك اتخذ مواقف من قضايا كثيرة تسببت له في حرج كبير، وفي عزلة مستدامة طمست قدراته المذهلة وآراءه، ومن ذلك مواقفه من اللغة الفرنسية، ومن بعض الفئات الاجتماعية واللسانية والأيديولوجية التي انتقدها بروية،ودون أيّ تحامل على أحد، كما يمكن أن نكتشف من خلال عدة نصوص، ومنها الانطباع الأخير والأصفار تراوح مكانها. فعل ذلك ليتبرأ من هذا وذاك، كما لو أنه قدم شهادته ومضى مطمئنا. وإذا كان معاصره، الكاتب والمسرحي كاتب ياسين قد ترك مقولة شهيرة: "الفرنسية غنيمة حرب"، فإن مالك حداد خلف بدوره مقولة حاولنا القفز عليها تجاهلها: "الفرنسية هي سبب غربتي"، لذلك توقف نهائيا عن الكتابة، أو ذاك ما شاع عنه.لقد كان يشعر أنه غريب في الألفاظ، أجنبي في جغرافية اللغة، وهكذا اختار نهايته. كيف طمس هذا الكاتب رغم قيمته الكبرى التي لا أحد يشكك فيها؟ لو أننا قرأنا، ببعض الحياد والتأمل، الانطباع الأخير وسأهبك غزالة والأصفار، تراوح مكانها ورصيف الأزهار لا يجيب والتلميذ والدرس وسأهبك غزالة لأعدنا النظر في موقفنا من بعض الهالات التي لا ترقى إلى مستوى ما كتبه مالك حداد بانمحاء كبير، ودون جعجعة لفظية. لقد كان يشحذ محرفه السردي كلّ يوم، وفي كلّ مرة يخلق عوالم وموضوعات مدهشة بتلك الطاقة التصويرية التي أربكت القارئ المنبّه. لقد كان يقوم بحفريات لا تنتهي. مع ذلك فإن أعماله السردية والشعرية لم تعرف رواجا يليق بمقامها الفعلي، ولم يتم الاعتناء بها، ولم تترجم إلى لغات عالمية أخرى، كما انتقلت إلى العربية متأخرة جدا، وفي طبعات محدودة ظلت بحاجة إلى عناية وترويج ، عكس بعض الأعمال التي انتقلت إلى لغات أخرى تأسيسا على منطلقات لا علاقة لها بالإبداع الجيد، وهي كثيرة، مع أنها ليست مقنعة، وأقلّ قيمة من كتاباته التي حلقت كالفراشات في سماء الإبداع، متجاهلة الحصار. لو بقيّ مالك حداد حيّا لما عرف منجزه هذا المآل الحزين الذي وصل إليه. ربما كان عليه أن يفكر مليّا، أن يؤجل رحيله ليهتمّ أكثر بما كتبه، بتلك الدرر العظيمة، ألاّ ينتظر أحدا للاهتمام به لأنه يسبب حرجا للآخرين الذي يرغبون في تبوأ المشهد دون أن يجدوا منافسا، ولو كان المنافس قد غادر الدنيا وخلّف ظلاله النيرة، دون أن يدري أنه كان مزعجا جدا. وكان علينا، نحن الكتّاب والقراء، أن نمنحه حقه في الطباعة والتوزيع والترويج لأنه ظاهرة سردية وشعرية لن تتكرر دائما، دون أن نركز على أنفسنا خوفا من اجتياحه، ذلك لأن لكل تجربة مكانتها وقيمتها، وليس بمقدور أحد أن يمحو الآخر، لكن عظام مالك حداد تستطيع أن تمحوّ عدة تجارب لا همّ لها سوى الشهرة المزيفة، على حساب المروءة، وعلى حساب المواقف الوطنية والإنسانية..