معنى النقد مثير للسخرية، لأنه في الواقع استعلاء وتحكم وأبوة ومحاولة للسيطرة ولو بتكتم، ولكنه من حيث الطبيعة تجربة فاعلة. الفرق بين الواقع والطبيعة هي مستوى الفهم لهذا البشري الذي حصّل بعض المعارف في الجامعة ثم اعتقد أن بإمكانه قول ما يشاء بديباجة الحكيم وأن له الصلاحية في القراءة والحكم. هذا منتهى الحمق الذي يكرسه نقد القيمة، بينما الطبيعة، طبيعة النقد تقول خطابا مختلفا، تقول بأن النقد تجربة صداقة طويلة مع النصوص وإنصات بريء للصوت الإنساني ومغامرة كبيرة في تدريب الحس على الفهم مجرد الفهم، وليس الحكم. أعتقد أن الحس الإنساني في أغلبه بليد من هذه الناحية، والقليل من يبتعد بحسه العالي إلى النقطة الأكثر تبلورا في التجربة الإنسانية. البحث عن المطلق واللامتناهي هي القيمة الحقيقية للنقد. يبدو أنني أتحدث عن نقد لا يوجد إلا في ثقافة تؤمن بالحوار والبساطة ومحبة الوجود ونبذ الهويات والتعصب والالتفات إلى ما هو جوهري في الحياة الإنسانية. الثقافة العربية لم ترق بعد إلى المستوى الإنساني حتى تنتج نقدا في مستوى التجربة النصية الرفيعة. والكلام بعيد عن أي تعميم. **** هناك سؤال عن غياب النقد في متابعته لما يكتب. معناه أن هناك كتابة لم يلتفت إليها النقد إلا قليلا. السؤال في الحقيقة يوجه إلى الكتابة ذاتها. الكتابة الراضية عن نفسها والتي تبحث عن أقاليم تافهة: المعارض - الندوات - الأيام الدراسية - التكريمات - الجوائز. إقليم الكتابة الحقيقي هو ذات الكاتب الذي ينبغي أن يكون مجرما في حق نفسه بتعبير خوان غويتيسولو. الإجرام الذي يحقق به نوعا من الكتابة التي تبلغ ذروة موتها وصمتها ونهايتها. أي أن الكاتب يقف ضد ما يكتب وليس يرضى بما يكتب. حينما تتحقق كتابة غير راضية عن نفسها والتي تشتغل في فضاء الضد المطلق ثمة يمكن أن يطرح السؤال الجاد عن غياب النقد. **** النقد لا يشتغل لمفرده. هو مسكون بأرواح كثيرة وبخاصة الشعر والفلسفة، وعبر التاريخ النقدي في العالم نجد أن النقد المستند إلى الروح الفلسفية أو الشعرية أكثر دينامية وحساسية من النقد الأكاديمي الجاف الذي لا يلتفت إلى الجمال الذي يتساقط من شجر الشعر والفلسفة والفن. البعض لا يعرف رأي الكندي الفيلسوف في أبي تمام مع أن نقاده في معظمهم بقوا حاصل معادلة السرقات الشعرية والغموض، الكندي رأى إلى الفلسفة التي تسكن شعره وتجاوز الأمور البلاغية والشكلية التي استهلكت النقد الحرفي، مراجعة لكتاب الموشح للمرزباني تعطي فكرة عما أتحدث، وأنا الآن مجرد متسول على ذاكرتي القديمة، لأن ما يعنيني الآن في الأدب والفن والفلسفة والشعر شيء آخر لم يتضح بعد.