وأنت تقرأ قوله تعالى: " مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" [النحل : 97] ستدرك سريعا أنك واقع بين شرط وجواب، وأن الوقوع في هذا الحيز يمثل مسار الحياة كلها، وأن المطلب المتعلق بالحياة الطيبة التي ينشدها الناس، جريا وراءها. كل بأدواته وأسبابه، وقدراته وحيله، وتدبيره وشطارته، واقع في شرط العمل الصالح فقط، ليس في ذلك فرق بين ذكر أو أنثى، إذا كان كل واحد منهما يريد لنفسه الحياة الطيبة في الدنيا قبل الآخرة. غير أن هذا الشرط لن يتحقق إلا ب " وَهُوَ مُؤْمِنٌ " لأن العمل الصالح قد يحققه في دنياه الأحمر والأسود، والأبيض والأصفر من الناس، بيد أنه لن ينتج الحياة الطيبة في الدارين، لافتقاره شرط الإيمان. وشواهد ذلك حاضرة بين أيدي الناس فينا ابتداء، وفي الأمم الأخرى انتهاء، التي تعمل صالحا لبناء رفاهيتها في المعاش، ومُتعها المادية والمعنوية في اللذائذ. وحينما تنظر إلى كلمة " فَلَنُحْيِيَنَّهُ " ترى أن الحديث فيها عن المفرد من الجنسين، لتتأكد أن الحياة الطيبة ليست متساوية للجميع بعد ثبوت الإيمان في هذه الدنيا، نظرا لتفاوت قيمة العمل الصالح المنجز من طرفهما. فلكل واحد منهما مقدار من الحياة الطيبة يساوي اجتهاده ويعادل مثابرته وإخلاصه. بيد أن الأمر إذا تعلق بالجزاء جاء الحديث جمعا " وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ " لأن الجزاء في الآخرة متعلق بعطاء الله ومنِّه الذي يتجاوز كَّل تقدير كرما وتفضلا. وفي مقابل ذلك يتحول كل عمل في الدنيا يكون خلوا من الإيمان، إلى ضرب من اللهو واللعب، الذي تأتي مُتَعُه وفوائده في الدنيا، كما يأتي نبات الربيع أخضرا زاهيا،وهو يحمل في نضارته أسباب الذبول وآفات الأفول : " اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ" الحديد : 20 .