حول تقرير بنجامان ستورا عن «حرب الجزائر» كتب بول ريكور في تقديمه لكتابه الشهير الصّادر سنة 2000 تحت عنوان «الذاكرة، التاريخ والنسيان» أنّ من بين المشاغل التي دفعته إلى كتابة هذا الكتاب، فيما زاد عن تداركه لمناطق بيضاء ظلت غير مطروقة في تجربته الفكرية ولا سيما عدم تفطّنه إلى ضرورة توسّط الذاكرة والنسيان بين طرفي التجربة التاريخية والتجربة السردية، وعن جدله المتواصل مع المؤرخين حول إشكاليات الذاكرة وانتظامها ضمن «معرفة تاريخية»، بالإضافة إلى كل ذلك ثمة مشغل لعله في تقديرنا هو الأهم: وهذا المشغل هو الذي يسميه ريكور «المشغل العمومي»، ألا وهو توزّع المشهد بين المغالاة في التذكر هاهنا، والشطط في النسيان هناك. فكأنما لاستدراك هذه الفجوات وتجسيرها جاء كتاب ريكور الذي بادر صاحبه منذ صفحاته الأولى إلى التعبير عن امتنانه لإيمانويل ماكرون لما كان له من الفضل عليه بمرافقته النقدية لكتابة الكتاب وحرصه على تشكُّله النقدي وفق المعايير القويمة. لقد كان ماكرون إذًا من قراء الكتاب من قبل صدوره، بل من الحريصين خاصة، حسب اعتراف ريكور نفسه، على أن لا يكون التلقي النقدي للكتاب مخالفا لمقصوده ولا محرّفا لنيته. ولذلك صاحبه ماكرون «نقديا»، أي بتمكين الكتاب من «عين المتلقّي» من قبل صدوره. ويرجع تخيرنا لهذا المدخل إلى الجدل الذي أثاره مؤخّرا تقرير المؤرخ الفرنسي بنجامان ستورا الذي أنجز بطلب من ماكرون رئيس فرنسا، كما يعود إلى رغبتنا في أن نضع لهذا الجدل إحداثية أخرى، غير الإحداثيات التقليدية التي تتركز حول «الحقيقة» التاريخية ومدى استيفاء المعرفة التاريخية لها، وحول ما يمكن أن ينشأ بناء على استيفاء تلك المعرفة من إعادات البناء للذاكرة، فضلا عن تحديد جديد للمسؤوليات. ولقد اخترنا أن نضع هذا التفكّر تحت عنوان ثنائية «بناء الذاكرة» (في علاقته بتعهد المعرفة التاريخية مراجعة وجردا)، وبناء الحياة باعتبار الذاكرة لا يمكنها أن تظل هي «حقل العيش»، وإنما ما يقوم عليه قرار العيش وتحديد أفقه وإمكانه. ولكن تقرير ستورا قد كان أرضية أو خلفية لقرار سياسي اتخذه ماكرون يقضي على وجه الخصوص بأنه لن يكون هنالك اعتذار من فرنسا للجزائر. إن هذين المعطيين هما المعطيان اللّذان نريد أن ننظر منهما إلى مدى صدور ماكرون في قراره «أنه لن يكون هناك اعتذار»، عن الدرس الريكوري؛ ونزعم أن هذا القرار ليس في النهاية إلا قرار تلميذ سيء لريكور، أعني تلميذا لم يضطلع بأهم مكسب لكتاب ريكور، وهو المكسب الذي يطوّره الكتاب في آخر مراحل كتابه ضمن «التكملة» التي تتجاوز قصده البدئي، وتريد إثارة مسألة «الغفران» باعتبارها عبارة «لغزِ خطيئةٍ من شأنها أن تشُلَّ قدرة الفعل التي لهذا ‘الإنسان القادر' الذي نحن إياه»، من جهة، وباعتبارها «جواب» هذا الشلل، برفع هذا العجز الذي يمس الكيان الإنساني، من جهة ثانية. إنّ قرار ماكرون يظل عميّا عن هذه الإمكانية التي تفتحها، بل تستلزمها تحليلية الكتاب، والتي تتعلق بالعيش، ما سميناه «بناء الحياة». ولكن ماكرون قد عهد بفتح مشكل الذاكرة على الحياة إلى من لا يستطيع أن يفكر في أكثر من بناء المعرفة التاريخية، أعني مَنْ شأنُه أن لا يكون تفكيره، إذا ما تعلق الأمر بالمرور إلى الحياة، أفضل بكثير من تفكير عامة الناس. ماذا في تكليف ماكرون لبنجامان ستورا ؟ يمكننا التركيز على بعض أفكار هذا التكليف: - أهمية معرفة تاريخ حرب الجزائر من أجل النظر إليها وفيها بشجاعة ودراية استجابة لمطلب تهدئة، واحترام، ومغادرة لمنطق صراع الذاكرات، من أجل ‘سكينة' الاضطلاع بالتاريخ ونقله. - هذا العمل هو عمل من أجل الحقيقة المحررة للنفوس، ومن أجل تصالح حقيقي للضمائر، وبين الشعبين الجزائري والفرنسي يقوم عليه بناء مصير مشترك في المتوسط - التعويل على عمل المؤرخ وتجربته من أجل قيادة مهمة تفكر تؤدي إلى إنارة قرارات قادمة. وتتمثل المهمة تحديدا في: ضبط الوضع الحالي لمعارفنا ومدى ما أنجز على طريق بناء ذاكرتنا الاقتراح الحر لما يراه المؤرخ من التوصيات الخاصة بما يمكن القيام به تجسيما لرغبة التقدم في ملف الذاكرة العسير والحيوي في آن للبلدين معا. ليس من السهل استيفاء ما في تقرير ستورا الضخم من المعطيات. لذلك سنكتفي بتحليل جزئي له، على أن نعود له لاحقا في تحليل شافٍ يتناول خاصة العلاقة البنيوية بين ما ينتهي إليه من المعطيات (بناء الذاكرة) وما يؤسسه على تلك المعطيات من التوصيات (بناء الحياة). وسنختصر في حدود مقالنا الراهن هذه العلاقة في حدود مقترحات ستورا الذي لئن أكد عدة مرات على أنه ليس مناهضا لتقديم فرنسا اعتذارها للجزائر، إلا أنه لم يطلب ذلك، واكتفى بالقول إنه «لا توجد موانع تحول من الاعتذار»، وحتى عندما سُئل صحفيا عن اعتراضه على الاعتذار، فقد اكتفي بالتوضيح أن تقريره «لا يحتوي على شعارات تستبعد صراحة إمكانية الاعتذار». إنّ ديباجتي التقرير (ص. 1) غير متكافئتين رغم ما قد يكون حرص عليه ستورا: فكلمات ألبير كامو تغطّي بالصداقة كل تضاريس العلاقة، ولا سيما تضاريسها العدوانية والعنيفة : «لم أقطع عن صداقتي أيّا من النّاس الذين يعيشون على تلك الأرض، مهما كان جنسهم». هكذا استشهد ستورا «النوبلي» ألبير كامو. أما مولود فرعون فيذكر أن «البلد استفاق على غضب يُعمي» وأنه قد عج بما يستشعره (من الأوجاس). كان ثمة قوة غضب تصاعد فيه .. وقريبا سيعيها تمام الوعي ويركبُها ويحاسبُ عليها الذين أطالوا سباته» : إنّ حدود العلاقة بينة من البداية، ما بين طرف يريد المحاسبة وطرف يريد التغطية على غضب المظلوم بطلاوة الصداقة. لا بد أن يعقب تقرير ستورا تعقيب يلاصقه سطرا سطرا؛ أن يتابعه في ذكرياته، في استحضاراته، في ما يستشهده من الرّمزيات، وفي ما يركبه من نماذج التفسير، ربما كان تقرير ستورا معيبا لأنه مفرط في أن يفهم «جزائريا» شعبا لا يستمد مخياله فقط من الجزائر، ربما بالغ في تحليل الموقف الفرنسي ضمن طفرات ربطها بالمدد الرئاسية دون أن يكون لها مدلول حقيقي.. يقول ستورا في صفحة 75: «نعلم أن السّلطات الجزائرية تطالب منذ سنوات عديدة « باعتذارات» عن فترة الاستعمار. وضمن سلسلة الخطب الرئاسية الفرنسية السابقة، يمكن لهذه الحركة الرمزية أن تنجز بخطاب جديد. ولكن هل سيكون ذلك كافيا ؟ أليس من الضروري استعارة مسالك أخرى، وتفعيل منهج آخر من أجل البلوغ إلى «تصالح الذاكرات» ؟ « مسالك أخرى، بديلة عن الاعتذار. ويعني هذا أنه ثمة في العموم، في نظر ستورا، بديل عن الاعتذار، وعن طلب الصفح. وتجري الأمور في تقريره كما لو أن «حرب الجزائر» لم تطف على سطح الاعتراف، بل هي لم تحظ حتى بأن تسمى، إلا بعد انتظار طويل: ثمة نوع من قرار الصمت الذي سلّم به الجميع بأن لا تتم تسمية هذا الحدث الرهيب، ولا حتى تحريك ذاكرته الفاجعة. ولكن ثمة أيضا نوع من تطويق الفضيحة بإلزامها بحدود المعرفة المخبرية، الأرشيفية، الأكاديمية، المفتوحة فقط للمختصين، للباحثين، الذين يحكمهم منطق انفصال التخصصات وجزيريتها، فضلا عن القدر الذي يلاحق معرفتهم بأن تظل دوما معرفة محدودة الانتشار. لكم هي دالة تلك الفقرة التي يستشهد بها ستورا عن بيار نورا الذي صرح قبيل تحرير التقرير بأن ما يجري في الوعي الثقافي هو ضرب من «فقدان التاريخ لمنزلته المفصلية. لا يتعلق الأمر بمجرد ارتفاع للتّاريخ، وإنما يتعلق بوعي مغلوب. إنّ شبان اليوم مكبّلون بثقل التاريخ حتى أمسوا يتجنبونه. وإني لأخشى أن لا يطول بنا الانتظار قبل أن يصبح المؤرخون لا يكتبون إلا للمؤرخين». ثمة في هذا التبرير الذي يقتلعه ستورا من بيار نورا اقتلاعا نوع من «الشماتة» التي يلوذ بها صاحب التقرير ليبرر بها أن خطابات السياسيين، ولا سيما بمضمون الاعتذار، لم تعد، أو يكاد أنها لم تعد تحرك أحدا. ثمة نوع من العزوف عن التاريخ هو ما أصبح يبرر في نظر ستورا أن خطابات الاعتذار لم تعد تكفي لتصالح الذاكرات. إن ذلك هو ما يبرر انتقال ستورا، ولا سيما من خلال استعراضه لأمثلة عديدة، إلى جدل «الحق في الذاكرة» / الحق في النسيان»، ليبرر من خلال كل تلك الأمثلة عدم ثقته في أن «خطابا آخر في الاعتذار سيكون كافيا لتهدئة الذاكرات المجروحة، ولردم أغوار الهوة الذاكرية التي تفصل بين البلدين» (ص. 79). هكذا أفهم مرور ستورا إلى استعراض كل الصعوبات المتنوعة، والتحديات العنيدة، التي تعسر تصالح الذاكرات (ص. 79 وما بعدها)، ولكن كذلك كل الخطوات الثقافية التي حاولت أن تقدّم المعرفة الكفيلة بتعويض الصور الرهيبة بمعارف أكثر دقة، وأن تشير إلى ضرورة التعريف كذلك بكل المجهود الفكري والنضالي الذي كان رافضا للاستعمار، من أجل تكوين نوع من الذاكرة المشتركة. ولكن إلى ماذا يهدف كل هذا المجهود؟ إلى الدفاع عن أطروحة التاريخ الآخر ؟ أن هنالك أيضا ضمائر فرنسية كانت رافضة للاستعمار ؟ من أجل ماذا؟ وهل يمكن أن نخفف من «قيامة» حرب الجزائر بتفاصيل بعض الضمائر الحية التي ناهضت تلك الحرب ؟ إن سؤالنا هنا سؤال مفصلي : من أين يمكن معالجة الجرح الغائر الذي يفصل بين البلدين؟ هل يمكن التغطية عليه ب«إمكان الخير أيضا» إلى جانب الشرّ الذي احتفر الذّاكرة حتى شارف قعر الجمجمة ؟ ولماذا يقع استبعاد الاعتذار إلى هذا الحد، ولماذا يقع تبرير هذا الاستبعاد بأن الاعتذار لن يكون كافيا ولا ناجعا ؟ إن الذاكرة المجروحة ليست ذاكرة يمكن بلسمة جراحها بإجراءات مصاحبة. وإنما هي ذاكرة تصرخ بالهشاشة التي باتت تصاحب حاضرها، وترافق كل رؤية لها تجاه الآخر الذي سلط عليها الظلم. إن الذاكرة المجروحة هي ذاكرة مظلومة، وليست هشاشتها التي تتمظهر كل يوم، في كل أنواع ردود الفعل، بما في ذلك ردود الفعل التي تراها كل يوم صادرة عنها، دون أن تكون محببة إليها، ودون أن تتعرف فيها إلى نفسها، ودون أن تعكس لها مرآة هويتها التي تريد، ليست تلك الهشاشة إلا توجّع العبارة عن «وحدة في الهشاشة» ( une solitude dans la vulnérabilité). إنّ جرح الذاكرة يستحضر الشر، ولكنه يستحضر أيضا سؤالا جذريا، هو سؤال كل مظلوم : لماذا أنا؟ ولماذا أنا وحدي؟ لا يتعلق الأمر بمداواة كلوم الذاكرة بالاشتراك في تحمل الشر. ولكن هاهنا تحديدا دورُ الاعتذار، وطلب الصفح: إن الاعتذار هو التعبير عن اشتراك في الهشاشة: وهاهنا يلقى السؤال السقراطي القديم جوابه الأحسم: أيهما أحسن : أن نفعل الشر أم أن نتحمله ؟ أن نوقعه بغيرنا أم أن يوقعه غيرنا بنا ؟ إن مقاربة ريكور التي لا يبدو أن السيد ماكرون قد فهمها حقا هي أنّ الاعتذار هو اشتراك، بل حلول في هشاشة المظلوم، وإقامةٌ رمزية في الجرح، جرحا أفرزه الجرح: فإن إيقاع الشرّ بالآخرين هو أيضا هشاشة جذرية في الإنسان: ولذلك هو يعترف بها، في تفاصيلها، ويطلب الصفح عنها، معايشة رمزية للجرح في احتفاره وفي اندماله. إن كبرياء المستعمِر، أعني رفضه الاعتراف باشتراكه في الهشاشة مع المستعمَر، هو ما يمنعه من الاعتذار. لأنّ الاعتذار يعني قبوله بأن يستأنف التّاريخ مع الآخر على جهة الاقتسام، اقتسام كل شيء.