لعل عقبة الأداء في حياة أي حزب , تكمن في حرص بعض قادة الأحزاب على إضفاء كبريائهم الشخصي على تشكيلاتهم السياسية, بمعنى أنهم يؤسسون أحزابهم معارضين, و يسيرونها- «مدى الحياة بالنسبة لبعضهم»- من خندق المعارضة , و قد ينتقلون إلى العالم الآخر و في قلوبهم ذات المعارضة ؟ و الأدهى أن قيادة الحزب قد تؤول بعد ذلك إلى من ورث نفس النزعة «الكبريائية» عن سلفه . و هذا الصنف من الأحزاب لا يمكن أن يضيف أو ينقص شيئا للحياة السياسية , فهو كالرقم المحايد في جميع العمليات الحسابية. و تحت تأثير هذه النزعة , تتخذ قرارات الأحزاب التي نشأت و ترعرعت و شاخت في المعارضة, فالمشاركة في الاستحقاقات الانتخابية , تبقى بالنسبة إليها رهينة زعيم الحزب, الذي يتحدد موقفه منها بما يناسب كبرياءه , و الكبرياء غالبا ما يميل إلى الزعامة وما يؤدي إليها, و بالتالي فالرئاسيات هي التي تشبع هذه النزعة لدى زعماء أحزاب المعارضة , و من هنا نسمع بعضهم يطالب بانتخابات رئاسية أخرى , و هذه عادةُ من يفوتهم القطار , يدفعون دائما إلى العودة إلى الوراء. قطار الإصلاحات بلغ اليوم محطة الانتخابات التشريعية المسبقة , و هو مطلب شعبي ,من المفروض أن يحظى بمباركة كل الأحزاب المعتمدة سواء الموالية منها أو المعارضة , بغض النظر عن التوجه السياسي أو الإيديولوجي. و هي الاستحقاقات التي تمت تهيئة الأرضية الدستورية و القانونية لإجرائها بشكل يزيل كل الشبهات التي كانت بعض الأحزاب تتذرع بها من قبل , لتبرير عدم المشاركة فيها , أو التشكيك في شرعيتها و في نتائجها, بحيث لم يعد للإدارة أي دور في الإشراف عليها و تنظيمها و مراقبتها و إعلان نتائجها , كما تم وضع حد لتأثير «المال الفاسد» على نتائج الانتخابات , و تم تشجيع فئة الشباب على الانخراط في الحياة السياسية عبر بوابات المجالس المنتخبة. هل للأحزاب المعتمدة في الجزائر قاعدة نضالية و شعبية؟ و هل لها مكاتب في الولايات و فروع في البلديات تعوضها عن الأساليب القديمة في خوض الاستحقاقات الانتخابية؟ عندما نطرح تساؤلا كهذا , فالأكيد أننا لا نتوقع جوابا بالنفي , و لا ردا بعدم المعرفة على الأقل , لأن الجواب الدقيق على التساؤل يتطلب تحقيقا ميدانيا يشمل كافة الأحزاب المعتمدة في البلاد , و التثبت ما إذا كان كل حزب منها متواجدا عبر ولايات الوطن , و يحظى بقاعدة نضالية و شعبية أم لا؟, والأهم من ذلك ,ما إذا كانت له البرامج السياسية و الانتخابية المواكبة لأوضاع البلاد, و برامج العمل الخاصة بنشاطاته السنوية على مدار العام ؟ و غيرها من المعطيات الغائبة حول حياة الأحزاب منذ الميلاد إلى حين الوفاة ؛ نقصد الوفاة القانونية , لأنه لا علم لنا عن أحزاب أعلنت إراديا عن حل نفسها من تلقاء نفسها ...و الأولى بالنسبة لمن ينشد التغيير الجذري , أن يبدأ بنفسه, لأن استمرار الأحزاب في ترديد نفس المطالب, و تبني نفس البرامج ,و التشبث بذات المواقف , هي ممارسات تكرس عزلة الأحزاب عن الشعب. كثرة الأحزاب و قلة السياسة بعد هذه الملاحظات العامة, التي كان لابد منها ,يمكننا القول: أن الخريطة الحزبية الجزائرية لم تتغير عما كانت عليه خلال النظام السابق أو الأسبق, فهي ما تزال خريطة فضفاضة في حاجة إلى ضبط جديد يتناسب مع الإصلاحات السياسية و الدستورية و القانونية التي باشرها برنامج الجمهورية الجديدة , و هو برنامج يشجع الأحزاب على التواصل الدائم مع المواطنين, لتحسين مكانتها السياسية , و دعم وعائها الانتخابي, بعد أن أصبحت الهيئة الناخبة هي وحدها من يفصل بين المتنافسين على المناصب في الهيئات المنتخبة. و الرأي عندنا, كما سبق و أن عبرنا عنه في عدة مناسبات ؛ أن كثرة الأحزاب ليست بالضرورة مؤشر صحة للحياة السياسية , و إذا كانت هذه الكثرة مقبولة في بداية عهد التعددية الحزبية ,فإنها لم تعد مستساغة بعد مرور 32 عاما من التجارب الحزبية المتنوعة . فالإدارة التي لطالما اُتُّهِمت برفض اعتماد أحزاب جديدة , سبق لها و أن أصدرت منذ 1989 حوالي 113 وثيقة مابين اعتماد و تصريح بتأسيس حزب . و بعد عمليات الفرز القانونية التي تمت في فترات سابقة اختفى خلالها 26 حزبا ,و اعتماد العديد( 39)من الأحزاب الجديدة بعد 2012 , تقلص عدد الأحزاب المعتمدة في الجزائر إلى حدود 80 حزبا إذا أضفنا تلك المعتمدة في خضم مسيرات الحراك الأسبوعية . و حتى هذا العدد يظل ضخما بالمقارنة مع عدد السكان و حجم الهيئة الناخبة , وكذا محدودية التوجهات الإيديولوجية للناخبين , فضلا عن القدرة الفعلية لبعض الأحزاب على تحمل أعباء المشاركة المنتظمة في مختلف الاستحقاقات الانتخابية, لاسيما بعد حظر المال الفاسد و التمويل غير الشرعي في العمليات الانتخابية , بدليل أن عدد الأحزاب المشاركة في الانتخابات التي جرت في عهد التعددية – محلية , ولائية أو تشريعية – تراوح بين 11 و 42 حزبا . و من حيث النتائج , فإن الأحزاب المشاركة في التشريعيات منذ1997 و حظيت بالتمثيل في البرلمان تراوح عددها هي الأخرى بين 9 و 26 حزبا علما أن العهدة البرلمانية السابقة تراوحت فيها نسبة تمثيل الأحزاب بين 17,35 و1,33 % ,بينما لم يحصل سوى حزبين و تكتل حزبي على أكثر من 5% من الأصوات المعبر عنها ؟ هذه المؤشرات ترجح الوضع غير السوي للخريطة الحزبية , و كان من نتائج ذلك أنه, رغم تواجد 80 حزبا معتمدا و حوالي 30 آخر في الانتظار , إلا أن معظمها يفتقر إلى الحضور المجتمعي و التأثير الشعبي و الثقل السياسي , و ينحصر حضورها في المواعيد السياسية و الاستحقاقات الانتخابية , دون أن تقدم أية مساهمة جدية في النقاش السياسي البناء أو في صياغة البدائل السياسية بمشاريع وبرامج واضحة و أفكار جديدة قابلة للتجسيد. و هكذا لم تمنع عمليات التطهير التي طالت الأحزاب عبر التعديلات التي خصت قانون الأحزاب , من استمرار حالة اكتظاظ الساحة السياسية بتشكيلات حزبية. يبقى القانون فوق الأحزاب حالة استيداع دائمة و لا تنشط إلا استثناء , نشأ ثلثها تقريبا بقواعد لجان المساندة لنفس البرنامج السياسي , و ما تبقى هو نتاج تشظي و انشقاقات أحزاب أخرى لأسباب تتعلق غالبا بالطموح الشخصي و غياب الديمقراطية الداخلية وعدم التداول على «الزعامة» . و القليل من الأحزاب يشذ عن هذه القاعدة , حتى و إن درجت الصحافة- الأجنبية بوجه خاص- على منح بعها أوصافا لا تعبر بالضرورة عن الواقع . و هذه المعطيات تكشف الحاجة إلى ضرورة تقليص عدد الأحزاب بشكل يتوافق مع حجم الوعاء الانتخابي , و هو أمر لا يتطلب سوى التطبيق الفعلي لأحكام القانون العضوي رقم 12-04 المؤرخ في 18 صفر 1433 الموافق ل12 يناير 2012 المتعلق بالأحزاب السياسية , من طرف هيئة مراقبة دائمة توكل لها مهمة التأكد من مطابقة الأحزاب المعتمدة لأحكام القانون المذكور. فلو خضعت الأحزاب لمثل هذه المراقبة الدائمة لمدى تقيدها بالقوانين السارية المفعول , لأمكن ضمان حياة سياسية و حزبية أكثر مردودية و فعالية. و في جميع الأحوال , فإن التشريعيات المسبقة, و ضعت الأحزاب في موقف لا تحسد عليه , و خاصة منها تلك التي تعودت اللجوء إلى المقاطعة لأتفه الأسباب , ذلك أن فتح المجال للشباب للترشح و دعم تمويل حملتهم الانتخابية , سيعوض أي غياب للأحزاب , و هو غياب مستبعد ما دام عدد الأحزاب التي شاركت في إثراء مسودة قانون الانتخابات كان في حدود 48 حزبا.