في يوم من أيام ديسمبر، وصلت دعوة إلى بعض الأساتذة في الجامعة للمشاركة في ملتقى دراسي على مستوى عال؛ قيل أن الدّعوة لم تصل إلاّ للمحظوظين منهم، و رغم أنيّ لم أكن منهم إلاّ أن الله شاء أن أشارك فيه فوفّر الأسباب. الرّحلة إلى مكان انعقاد الملتقى كانت طويلة و متعبة، و لكنّنا وصلنا، و ذاك كان الأهم. الاستقبال كان رائعًا، و علمنا أنّ الإقامة ستكون بأفخم فندق في المدينة...لم يسبق و أن رأيت فندقا من الدّاخل...فرصة جيّدة لاكتشاف ثناياه، إحدى صديقاتي السّابقات أخبرتني يومًا أنّه عالم مختلف...قائم بذاته، و لا يدخله أيًّا كان، و لابدّ من التّأكد من صحة جيبه قبل المغامرة...قالت لي أن هناك سحرًا لا يُقاوَم، و نُكهة لا توجد في غيره ولذلك اختارت أحد رُوّاد تلك الأماكن من أصحاب المال و النّفوذ... أعطاها ما أرادت وسلّمته ما أراد؛ فكانت الصّفقة مُربحة للطرفين !!...غادرت الجامعة بعد سنتين من الدّراسة، و لم أبحث عن أخبارها، فأمرها لم يعد يهمّني، وأهلها كذلك، نسوها منذ زمن! طلبوا منّا في مكتب الاستقبال بطاقاتنا الشّخصية لحجز الغُرف، أعطونا المفاتيح، وتَمّ احتلال الأماكن...قيل لنا لثلاثة أيام فقط! بعد محاضرات اليوم الأوّل، عدنا إلى الفندق مساءًا، وصلنا وقت العشاء، وكان فخمًا-كما كانت صديقتي تقول – و لابدّ من استخدام شوكة وسكين! أتساءل لما كلّ ذاك التعقيد؟! فالمواد المُستخدمة في تلك الوجبات هي المعروفة عند الجميع، ولكن طريقة تقديمها فقط تختلف...بعض الشيء؟! و لابد من شوكة و سكين!؛ و الكلام أثناء الأكل دون نسيان المُجاملات! أتساءل إن كانت كلّها صادقة؟...الخدمة أيضا كانت على مستوى عال. وجود الصّحافيين والشّخصيات المهمة زاد من قدر الحدث، السّهرة كانت طويلة، لكنّي لم أقوَ على السّهر فانسَحبتُ للنّوم في وقت مُبكر...وهناك.. وفي قاعة الاستقبال رأيت امرأةً عند الهاتف...تأمّلت فيها كثيرا...تُشبه صديقتي بعد تحوُّلها...لباسها وزينتها يُعرّفان بها، وذاك الاسوداد الغريب على الوجه...شعرت بقشعريرة تختَرقني! أتساءل كيف تحتمل النّظر في المرآة؟؛ أو كيف يحتمل أيّ صاحب ذوق سليم الاقتراب منها؟...وربّما مع ذلك كلّه كانت تَستحقُ الشّفقة، فلن يظلّ إلى جانبها أحد بعد سنين من الخدمة المُتفانية، كأيّ طفل حين يسأم من لُعبَته القديمة، لابدّ أن يرميها ليشتري أخرى جديدة؟...ولمَا الاهتمام بها؟ كل إنسان يختار طريقه بمحض إرادته، وقد اختارت...صديقتي كانت تردّد دائما؟: (أنا بالغة و ذكية؟ و لا أحتاج إلى نصيحة؟). الغُرفة كانت واسعة، مكسوّة ببساطٍ أخضر، لا حاجة هنا إلى استخدام الأحذية، وإلى جانب النّافذة المُطلّة على السّاحة الخارجية تلفازٌ كبير، وأمامه طاولةٌ وأريكتين، وعلى الحائط مرآة، و في الجهة المُقابلة سريرٌ يبدو أنّه مريح، وبجانبه منضدةٌ صغيرة وخِزانة خشبية داخِلة في الجدار، وعند المَدخل حمامٌ خاص بكلّ غرفة، فلا داعي هنا إلى الانتظار الطويل كما يحدث في الأحياء الجامعية، الإقامة فعلاً مُريحة، فارقٌ كبير بين الإقامتين! أردت مُشاهدة التلفزيون...فتحت إحدى القنوات الأجنبية، وكانت تعرض حصّة سياسية...الحديث كان عن أزمة العراق! يبدو أن قَصفَه صار أمرًا مؤكدًا! لا بدّ أن يحدث الأمر على كلّ حال، لتتمكن أمريكا من التّفرغ لبلدانٍ أخرى؟ أتساءل متى سيصِل دورنا؟ سيصِل على كلّ حال، فنحن أيضًا على القائمة! هي فقط قضية وقت لإيجاد الذّرائع المُناسبة؟ لكنهم مُحقون...لا ألومهم أبدًا؛ فهذا ما حدث للثّور الأسود حين ترك الأسد يأكل أخاه الثّور الأبيض؟ وهذا ما سيحدث لنا حتمًا، والأسد غير مذنبٍ في كلّ هذا الأمر! فعليه أن يصطاد ليعيش، واللّوم على الثّيران الغبية! لم تُفكر حتّى في استخدام قرونها!! فكرت في الدّراسات المُهمة الّتي توالَت في ذاك اليوم، وقَارنتُها بالأحداث الّتي كانت تُعرض أمامي...مفارقاتٌ عجيبة!! هل نستحقُ الحياة بعد هذا؟؟...فكرت أيضًا في صديقتي، أين هي يا ترى؟ ألأجل مثل هذه الغُرف باعت نفسها؟؟ كيف ساوَت بين الأمرين يا تُرى؟ قبل أيّام من انعقاد الملتقى رأيتُ أخاها الصّغير، كان الأطفال يضربُونه ويُعيّرونَه بِأخته؟ اضطررت للتّدخل لِمنع الأيدي عنه؛ ملابسه غطّاها التراب، وشعرُه...المسكين! وجهُه الصّغير كسَاه الغُبار، والدّموع، والدّم! مَسحتُ عنه ما استطعت ورافَقته إلى بيتهم، يده الصّغيرة كانت ترتجفُ في يدي! ورنّة بُكائِه لم تتوق طيلة الطّريق، أردت أن أحمِله لكنّه رفض، قال لي:(ملابسي سَتوسّخ ملابسك!)، المسكين! أتساءل كيف سيعيش؟ وماذا بعد أن يُدرك هَول ما حدث؟! عندما عدت إلى البيت صرخ والدي في وجهي؛ رآني أحدهم مع الطّفل أمام بيتهم و أبلَغه الخبر...لم يُعجبه الأمر، فذلك البيت بمن فيه قد وُضعت عليه إشارةٌ حمراء للأبد! و ما ذنب الطّفل في كلّ هذا؟؟ مجتمعٌ لا يرحم!! برنامج اليوم الثّاني بدأ مبكرًا بإفطار الصّباح، كان...فوق الحاجة! في الطريق إلى مكان إلقاء المحاضرات رأيت رجلاً بدا من هيئتِه أنّه متشرد، وكان يأكل في مرمى النّفايات!...مفارقات عجيبة!! كيف يجرؤ سادة الوطن على الحديث عن العدالة الاجتماعية؟ أمرٌ يُثير السّخرية! وهناك...أحاديث كثيرة ومتنوّعة، قيل عنها مهمّة! وذات أهدافٍ عُظمى!! كلّ شيءٍ أصبح عظيمًا في هذا البلد حتّى الجنون! يُقال أن الجنون فنون! والفن عظيم...إذن فالجنون أيضًا عظيم!!...نظرية تستحق الدّراسة، سأتركها لبحث الدكتوراه، قد أنالُها بامتياز؛ من يدري؟؟ اشتقت للبيت، والخبز والزّيت، وكتب التّاريخ والذّكر، وأخبار الحروب في الحاضر والماضي ونبوءات الزّمن الآتي، مالي وكلّ هذا التّمثيل؟ مكاني ليس هنا؟ غدًا سأعود إلى البيت.