إن محنة الهوى الشعري أصعب من أن تحد،و أبعد من أن ترصد،إذ الشعر هوس في ما لا يمس و ضرب جدير بأن يقدس،ضرب وقف عنده شاعر الوجدان الجزائري"رمضان حمود" قائلا:" قد يظن البعض أن الشعر هو ذلك الكلام الموزون المقفى،و لو كان خاليا من معنى بليغ و روح جذاب،و أن الكلام المنثور ليس بشعر و لو كان أعذب من الماء الزلال و أطيب من زهور التلال...إذ الشعر..هو النطق بالحقيقة،تلك الحقيقة العميقة الشاعر بها القلب.."و تحت ظلال تلك المحنة نسجت "زهرة برياح" مدونتيها المسماة "عيون العشاق" و " مرافئ العشق البارد" أضربا شعرية "شاعرية" عن مسارات الهوى الشاعري الممزوج بحمولة البحث عن مفقودات كينونتنا المعاصرة في خضم اللامتناهي لعفونة الأحداث و اللامعقولية في ما يقع بين ظهرانينا من تشعبات الوجود و تعقيداته،مما يوحي بأن الشاعرة تبحث عن مفقودات كثيرة في وجوديتنا هذه،لكن و بالتدقيق،يبدو أن تلك المفقودات في سراديب شاعرية "الزهرة..." ثلاثة جذور هي "الحب" و "جمالية الفضاء الوهراني" و "هاجس التعبير بكل حرية عن مكنونات الذات" وهي الجذور التي انبنت عليها شاعريتها و مدونتاها،حيث تتصدر مدونة "عيون العشاق" قصيدة "العاشقة المقتولة" التي توحي إلى كثير من المسارب الدلالية و ترمي إلى زمر من الإيحاءات التي يستنتجها كل قارئ حسب مرجعياته المعرفية في حقل الشعر و الشعرية. و ما يبدو لي في هذا المضمار أن مصطلحي " العشق" و القتل" يخرجان بالحتمية الإيحائية،حسب ما يفهم من شاعرية "الزهرة"،عن الاستعمالات المعجمية إلى دلالات و حمولات أعمق،لعل جلها،أو أكثرها،ينصب على نكبات الموضوع" المعيش" الذي بات يتداوله الإنسان ضمن مقتضيات العصر الذي شحت فيه ينابيع المحبة و العشق و انهمرت فيه ينابيع القتل بشتى أنواعه و ألوانه؛مادية و معنوية،مما زرع كثيرا من انعدام الأمان و مما ساعد على انتفاء العشق و المحبة بين الفرد و صنوه أو بينه و بين نقيضه.أما موضوع جماليات الفضاء الوهراني فتجل في كثير من قصائد المدونتين،لكنها برزت بقوة في قصيدة "وهران ارويني....من نبع حنانك"،وهي المدونة التي حتى و إن قصدت الشاعرة التخلص فيها من البحور الخليلية حتى وجدت نفسها متواطئة وسط الشعر و الشاعرية،بدء من خطاب افتراضي تحت وطأة مغريات الفضاء الوهراني،خطاب تلون بين مناجاة الضمير الافتراضي الآخر "أنت..." المختفى وراء صياغات متناثرة عبر المدونة كلها،و بين إضفاء بعد عجائبي مغر بالملامسة و بالرونق وفق سياقات لونية " الأزرق،الأسود،الأبيض... و بإغراء من ذلك الهوس نحتت "زهرة.." في مدونتها هذه لوحة يسكنها من العجب و من الانبهار مثل ما اكتنزته عوالم الأقدس و الأجمل ناثرة بدائعه ضمن أوصاف "النادر،لا يملكه أحد،بلا أقنعة، الأبدي،.."،انبهار كرس عجبا مندسا بين تنافر؛"سهام العدى و ورود الشذى،أمواج و قارب..." تارة ،و بين تمازج و تناغم؛"وشوشة البحر و بوح الآخر جمال البيضاء..." تارة أخرى. و في وسط المحنة و الهوس اختارت "زهرة.." البوح عن مكبوتات الوجد عبر شراع الخاطرة المترعة بسكر دوالي البوادي الوهرانية و المغرمة بتدافع أمواج المتوسط المدللة أبدا بمعتق الأيام،و الموشاة بتلافيف المأمول من نشوة الهوى المترعة به كؤوس الخواطر. إن وهران و البحر صيغتان لعشق مضمر تختزنه "الزهرة.."؛صيغتان تعانقت أبدا بين حنايا المسير؛وهران المغرمة دوما بترانيم التدافع وبنزق الزحف المسكونة به أمم أغرمت بها قبلا و ستبقى تشد إليها الرحال بعد،حتى ولو بعد سرد ذات يوم أحدهم وقائع "الطاعون"،و البحر المبهر في جماله و في زرقته و في تشنجاته حتى خلدت صولاته و جولاته "الأوديسة" و "العجوز و البحر" و "المصابيح الزرق" و "طيور في الظهيرة" لتبقى كلها صيغ حميمية لتوسد صدر وهران... أوحت لي ذائقتي،و أنا أقرأ هذه المدونة،و كأن "الزهرة..."تشرب حتى الثمالة كل مكونات الفضاء الوهراني،شراب و ثمالة تأرجحت بينهما المسافات و تآكلت الحدود حتى عادت فوانيس الديمومة الوهرانية المحاصرة بهيام و بشبق لكل الأشهر و الأيام،لكنها تزيد توهجا وافتنانا مع تنامي أيام أوت الذي يشهد انفلاتا نحو مغريات الأمواج تحت وطأة سحر الزرقة و توهج المأمول. و ما كان يتأتى ذلك لو لم تكن "الزهرة..."قد أوهمتنا بأنها استيقظت من زمن العشق العصامي،و ودعتنا نحو سفر بعيد،بعد الاستيقاظ ، بعيدا عن مغريات التسكع المجاني نحو ما كان و تلهفا نحو ما سيكون....لكن الثابت أبدا عند شاعرية القول المنثور "الزهرة.." أنها قبضت بدهاء يتزاور فيه العشق و السباحة بعيدا...بعيدا عن منغصات الكينونة... باعتبار ذلك التزاور يغري بالركض نحو بساط الفيافي المسكونة بالهوس العشقي...و بعيدا..بعيدا عن أسواق الأقنعة المطلية بالحبر الأسود. تنفي "الزهرة..."الملكية عن الوطن،و الكتابة عن القلم حتى وسط أفراح الصيف،لكنها تعشق كتابة البحر و وشوشة أمواجه التي هي كتابة ما في كل الحالات...و تتباهى،بغنج،عن ابتعادها كل ما هو عشقي و عن كل ما هو مكتنز بالإغراء..لكنها ترتع بهيام وسط المتخيلات العشقية التي لا تبرز لها كينونة إلا تحت ظلال الآهات و المغريات القيمتان الوحيدتان اللتان يسوق بهما الإنسان إنسانيته و عشقه و هيامه..مع إصرار قاتل على الامتناع عن إسكاب الحبر الأسود. إن "الوطن" و "البحر" و " وهران" أركان للمشتهى الشعري الذي ارتضته "زهرة.." على أنغام التواترات المتناسقة مع انفتاح النفس على ما تبقى من الكينونة التي غطست في عمقها منذ النشأة الأولى،مما جعلها أركانا لانزياحات افتراضية تختبئ تارة تحت "الجنون" و تارة أخرى تتوشح بصيغة "البوح"،وكأن "زهرة.." تعايش فعلا ما أوحى به "باشلار" بالقول: "يشكل الخارج و الداخل انقساما جدليا،و لكن هندستهما الواضحة تعمينا بمجرد أن نضعهما في مستوى مجالات الاستعارة. ليخلص محاور شعرها إلى الاعتقاد بأن داخل "زهرة.." الذي رسمت مبتدياته الأولى،وفق ما يوحي به المتن،صريع إغراءات وهران تحت إلحاح و توهج شبق البحث عن الأوفى و الأجمل من خلال متقلبات الأيام و الأزمان...و ذلك ما كان قد شيد بدء من هناك..شبق عشقي رسمت مشاتله أساطيل أمم عديدة و متعددة كانت تجنح إلى هنا... تارة للراحة و أخرى للاحتماء من توهج المتوسط،و لما لا، ثالثة لتفريغ حمولات و محمولات أهوال الأمواج و الأعاصير،كما شيدته مواهب إبداعية ترعرعت هناك حين كان تحليل الأحلام جزء من تقنيات العيش" حسب ما اعتقد " أرتيمودور". لعل اللافت للنظر في هذه المدونة هو إحالة الجسد وامتحانه بإفرازات و اختباره على منتجات الفضاء مقابل تسليم مشعل الصياغة و البوح للروح و للمعنى،مما يمكن من التأكيد على أن المدونة كلها تأبى أن تصوغ المعرفة و ترفض أن تسرد منجزات الجسد،بل تجتهد في استجلاء قيم و معايير التمثل الخلاق لمبتغيات الإنسان و مشتهياته،ليجد قارئ هذه المدونة، مباشرة،في تقاطع مع فكرة "فوكو" القائلة "..بأن الموت و المرض أو حتى الألم الجسدي لا تشكل مصائب حقيقية،و أنه من الأفضل الاهتمام بالروح بدلا من تكريس الاهتمام لرعاية الجسد.." و يبقى،إن الامتناع عن تسمية المدونة شعرا..حتى و إن كانت تلبست لبوس الشاعرية المنبعثة من حلل نفسية محملة بوابل من المتعة و من العشق و فق سياقات تعبيرية لا تقهرها و لا تتلبسها القوانين "الخليلية"...إن كل ذلك أجده شقا آخر من البوح المتسرب بين حنايا يوميات "الزهرة.." بحنكة و بذكاء تحت طائلة الالتهاب و التوهج الجمالي الفني الذي تسبح في زرقته أطياف النفس الطيبة "للزهرة.." تحت طائلة قوة الالتحام و صدق التعبير و تميزه عن مكونات الخريطة العشقية لكل ما يمتع و لكل ما يصقل الذوق و لكل ما يعلي من شأن القول الفني و البوح بالحقيقة الشاعر بها القلب؛حقيقة لابد و أن تصيبها بعض شظايا الشعرية حتى و إن لم تنظم وفق مراسيم الخليل. و لعل قصيدة "لحظة حب" أيقونة كل ذلك الوهب و تاج ذاك الحب،منذ الابتداء حين تقول: لأجل عينيك..سيدي تركت الكتابة و بلادي و نسيت الألف و الباء لأن الكتابة عندنا مثل الأعادي و لأن الفكر عندنا جريمة و دماء إلى أن تقول: ما عدت أقوى.. على كتابة كلمة حب..........أو........ حرية.........
إن قارئ القصيدة بتمعن و بذائقة هادئة سيصل إلى الارتكاز الثالث الذي هو "هاجس التعبير عن مكنونات الذات"،كما سيقع اختياره،بدون شك،على كلمتين محوريتين (أيقونتي) في النص كله هما " الكتابة" و "الحمام" لما يرمزان إليه من أبعاد و من دلالات. و مما زاد في شحن النص دلاليا إصرار الشاعرة على إسناد فعل "الترك و العزوف" على "الكتابة"،و كذا إسقاط فعل "القتل بخنجر الديمقراطية" على "الحمام".و هنا يمكنني أن أشير إلى تقاطع المعطى الشاعر مع الإعلامي في شاعرية "الزهرة"، حين نجد شاعريتها تغوص في مسارب الهواجس الروحية و وسط دهاليز المتوخى من العواطف و الشعور في الممارسة الخليلية/الحمودية بكل اقتدار و سلاسة،بنفس القدر الذي تجد،في المقابل،أن هاجس الإعلامي الملتزم بالبوح(افتراضا) عن كل ما يختمر في ذوات السواد الأعظم من القراء و من أفراد المجتمع،ذلك المتمثل فيما عاشه هؤلاء الأفراد و ما قد يعايشونه حتى الآن من اضمحلال و من ضياع للمكاسب الثورية المتمثلة في "الحرية و الديمقراطية و الكتابة و الإبداع.." أو لعل ذلك إشارة واضحة لما عاشته الجزائر في السنوات الجمر،و ذلك على اعتبار أن هذه القصيدة و غيرها قد كتب خلالها أو بعدها بفترات قصيرة جدا،كما يمكن أن يكون كل ذلك قد حدث كعملية استحضار للماضي بنوعيه البعيد و القريب.هنيئا لك "زهرة.."،و هنيئا لوهران،و ليفخر فضاؤها بما أبدعته ،مع التمنيات لك بالمزيد.