صدر عن داري نشر؛ابن النديم،والروافد الثقافية،كتاب "الرواية الجديدية؛ بنياتها و تحولاتها،للأستاذ الدكتور محمد داود،الذي حاول فيه أن يلملم كثيرا من خصائص و مميزات النص الروائي الجديد حسب ما رشحت به قرائح مبدعيه في الغرب. وأحسب أن الزميل محمد داود من الأساتذة القلائل الذي يحسنون قطف ما راق و ما يخدم ثقافتنا الأصيلة وما يفيد الباحثين حول الحقول الأدبية. مما أصبغ على هذه المدونة كثيرا من المميزات والخصائص يمكن إجمالها في ما يلي: قسم مدونته إلى بابين سمى الأول؛رواية جديدة أم واقعية جديدة؟ وجزءه إلى ثلاثة فصول وفق المحاور التالية: الوضعية النظرية للرواية الجديدة، وإنتاج نصي،مقاربات وخطابات نقدية،ثم قضايا تشكيل وتلقي الرواية الجديدة. ثم وضع "السرد و المخيال في الرواية الجديدة"عنوانا للباب الثاني الذي قسمه هو الآخر إلى ثلاثة فصول هي:آلان روب جرييه الأشياء و الواقع في رواية "الغيرة"،ونطالي صاروت والغوص في أعماق النفس الإنسانية في رواية "مجسم القبة السماوية" ثم ميشال بيتور أدب الرحلة وعبقرية المكان في رواية "استعمال الزمن". ولقد استطاع الآستاذ داود أن يقدم حوصلة دقيقة حول هذا الأسلوب الجديد في الرواية العالمية حين اختار لكتابه منهجا تجسس به على المكونات الخفية لهذا الجنس من عند مصادره المنظرة والمنتجة له. وذلك ما جعله يختزل مسيرته ومكوناته ضمن العناصر التالية مثل التعريف ومصطلح التداول(حركة مدرسة) ثم المفاهيم المحيطة به،جاء ذلك في الفصل الأول الذي خلص فيه إلى تحديد التملك المعرفي للرواية الجديدة ضمن منظومة المنظومة المعرفية المنضوية تحت العصر،وإذا كان التملك المعرفي ضرورة من ضرورات التعاطي الأدبي في شكله الرسمي والمبتغى من كل نص فإن الاستهلاك لمثل هذه النصوص في الغرب تعطى له الأهمية القصوى حيث يحسب على أساسه نجاح النص من عدمه(استفتاء أدبي)، مما دفع بمحمد داود إلى محاصرة هذه المسالة في القراءة(القارئ/المتلقي) بنوعيها الكلاسيكي و الجديد، ليوحي بنوع من التناسب بين منتوجية النص الروائي الجديد و بين الفيئة المستهلكة له. وذلك ما عالجه الفصل الثاني. مما لاشك فيه أن التملك المعرفي لماهية النص و افتراض جدلية قرائية حوله لن يؤتي أكله إلا عبر تحديد هوية النص الجديد و تبيان المعايير المستجدة فيه لينشأ، بالضرورة، تواؤم بين هذا النص و بين العصر المنتج فيه وبين قارئه، وذلك عبر مسألة(التركيب النص) أو البنية الجمالية للنص التي اختزلها محمد داود في عنصري الحكي والشخصية و ما طرأ عليهما تحت إجبارية الزمن و تحولاته. ومثل هذه المسائل بقدر ما هي معقجة بفدر ما يجدها الناقد والقارئ العادي معا مفصلة في الفصل الثالث من الباب الأول من كتاب "الرواية الجديدة؛بنياتها و تحولاتها".مما هو متعارف عليه لدى النقاد أن هناك بعض التداخل بين التاريخ و بين الرواية في مسألة(السرد) باعتبارها آلية للحكي عن وقائع و أحداث وقعت في أزمنة مختلفة،لكن الرواية تختلف عن التاريخ بأنها تتوخى الاتبعاد عن الحقيقة و تبدي كثيرا من الميل نحو الخيال والتخييل،وذلك ما دفع محمد داود إلى عقد الباب الثاني لمسألتي السرد والمخيال في الرواية الجديدة مؤيدا ما ذهب إليه بنصوص روائية لمعالم هذا الجنس الأدبي في الغرب.وكانت العتبة الأولى لهذا المسعى عقد جلسة ممتعة مع رائد هذا الجنس الأدبي إبداعا و تنظيرا "آلان روب جرييه" صاحب كتاب "نحو رواية جديدة" و مبدع رواية "الغيرة" التي مثل بها محمد داود عن قضية دمج/تمفصل الواقع وما يحدث فيه من أشياء ضمن اللبوس السردي(الروائي) الجديد وكيف تجسد كل ذلك في (الرغبة المثلثية) في بنية شخصيات هذه الرواية، ذلك البناء وتلك التقنية لا يمكن فك شفراتها و معرفة دلائلها إلا للمتسلح بالمنهج السميائي بسبب تعقد مسألة كينونة الشخصية بمجموع المكونات المحيطة بها؛ اجتماعية،جمالية،اقتصادية، سياسية،إنسانية،.وبما أنه ما زال لحد الساعة لم يفك اللغز الأكبر في حياة الإنسان الذي هو "الزمن" من حيث علاقة التأثر والتأثير بينهما،حتى تبارى لمعالجة هذه القضية مجموعة من الفلاسفة مثل "برجسون" تنظيرا و"بروست" إبداعا في زمنه الضائع،فإن محمد داود، ووفق ما توفر له من دراسة للرواية الجديدة قد وجد أن الروائية " ناتالي صاروت" في روايتها "مجسم القبة السماوية" قد اغترفت من هذا الينبوع وغامرت بالسباحة في يمه تحت قبة "الانتحاءات" و "الاستعارات" اللتين استطاعت بهما أن تتملص من تلك الفواصل الدقيقة بين الأزمنة لتنجز، و لو افتراضا، زمنية تتساكن فيها وحولها مجموع الأزمنة إن استطاعت أن تساكن وأن تهادئ النفس القارئة.وإذا كان من الصعب،حتى الآن،الفصل بين مسألة الزمن و بين الإنجاز الرحلي، سواء في عملية إبداعه أو في سبر أغوار معيشه وسط حياة كل إنسان، فإننا نقرأ في هذه المدونة وقفة مع "ميشال بوتور"،وهو علم آخر من أعلام هذا الجنس في الغرب، في روايته "استعمال الزمن" التي افترضت صراعا/تضادا بين سيرورة و سيولة الزمن و بين جمودية المكان،توهما على الأقل، ليستشعر القارئ كأن هناك تداولا حميميا تارة، أو صراعا حادا تارة أخرى من أجل إغراء الإنسان/القارئ/المتلقي بتشييد فضاء قد يكون نقيضا لهما معا. وحينئذ يبدوا وكأن إنتاج النص الروائي الرواية الجدية هو مغامرة أخرى، أو هو اقتراح من أجل التسويق لنص أدبي يناسب الإنسان المعاصر بدل الاكباب على نصوص أدبية كلاسيكية قد تكون لها تداعيات غير منسجمة مع الراهن.وبذلك يجد القارئ،الذي يريد أن يستثمر هذه المعطيات في مخزونه المعرفي حول هذا الحقل، كأن محمد داود قد أجاب عن الفقرة الأولى التي بدأ بها كتابه، و التي يقول فيها:"..واجهت الرواية الفرنسية،منذ نهاية القرن التاسع عشر أزمة عميقة، حيث تمت إعادة نظر شاملة في أسس و هوية هذا الجنس الأدبي خلال المراحل الكبرى التي أعقبت هذا التاريخ.."ص 9.