كانت الساعة تشير إلى العاشرة والنصف ليلا عندما وطأت أقدامنا مدينة " كان" الساحرة التي تُصنّف كأشهر وأهم المدن الفرنسية بعد باريس ، فرغم أن الظلام كان يدُبّ في الأضواء إلا أن الحركة لم تختف و الضوضاء لم تنته، كأن زائريها يُساهرون كواكبَها ونجومَها ، ويُفضون إليها بما ألمّ بأنفسهم من سرور وغبطة ، انتظرنا بفارغ الصبر أن تنفرِج لمَة الظلام عن جبين الفجر حتى نكتشف هذه المدينة الفرنسية الساحرة .. مدينة الشهرة والنجومية كما يُسمّونها ، في الصباح الباكر من اليوم الموالي وتحديدا في الساعة الثامنة صباحا عندما أخذت الشمس مكانها من كبد السماء ، خرجنا من الفندق الفرنسي الراقي الذي كنا نقيم فيه قبل بداية العروض السينمائية، علَنا نستمتع أكثر بأناقة الشوارع الفرنسية الأشبه بالخيالات الشعرية والنوتات الموسيقية ، فالمشي في هذه الشوارع هو المتعة الحقيقية لأي زائر أو سائح ، كونه يسمح باكتشاف طبيعة هذه المنطقة السينمائية التي تطل على السواحل الشمالية للبحر الأبيض المتوسط والتي يسكنها 70 ألف مواطن ، ويزروها خلال المهرجان أزيد من 40 ألف زائر بين صحفي ونجم ومتخصص في السينما و أيضا سائح ، صراحة أكثر ما شدّ انتباهنا هو كيفية تشييد الطرقات التي كانت مرصوفة بالحجارة القديمة ذات الأشكال المختلفة ، ما عكس رونق مبانيها وأحيائها المزدانة بباقات الزهور والياسمين ، وأعطى صورة سياحية راقية عن هذه المنطقة الفرنسية . بعد ساعة من التجوال اتجهنا نحو القرية الدولية ل " كان " وكُلُنا شغف لدخول القاعات والاقتراب من ميناء " اليُخوت " الذي لم يكن أبدا بعيدا ، وهناك لمحنا جمعا كبيرا من السياح والزوار متأنقين يُسابقون الخطوات من أجل دخول فضاء المهرجان ، في البداية تفاجأنا عن سبب ركضهم بهذا الشكل ، لكن بمجرد اقترابنا أيقنّا السبب ، نعم .. هم يحاولون الحصول على تذكرة لدخول قاعات السينما ومشاهدة الأفلام المشاركة في المنافسة ، ما يمكّنهم من الالتقاء بفنانيهم المفضلين وكبار الموسيقيين ، صراحة .. تلك الطوابير الطويلة أرهقتنا وبثت في أنفسنا الكثير من التساؤلات ، كيف أن هذا الكم الهائل من الناس ينهضون باكرا من أجل مشاهدة فيلم ، وهو ما نفتقده في قاعاتنا التي هي شبه فارغة على مدار العام في ظل غياب ثقافة سينمائية بحتة ؟؟ ، كيف أن هؤلاء الناس يعشقون الفن السابع ويقدّسونه ، في الوقت الذي لا يبذل فيه أبناؤنا أي جهد للوقوف عند شباك التذاكر وولوج دور السينما ؟؟ ، أسئلة عكّرت مزاجنا وبعثت في وجداننا الكثير من الحزن والاستياء ... لكن سرعان ما تجاوزناها فور مشاهدتنا لجموع السائحين الذين كانوا موزّعين على المقاهي الفرنسية يتبادلون أطراف الحديث تارة ويلتقطون صورا تذكارية تارة أخرى ، كانت علامات الغبطة والفرح بادية عليهم وهم مستمتعين بنسمات مدينة " كان " الملهمة ..وقفنا بعدها بشارع " لاكروزات" الذي كان يعجّ بالزائرين وهم يتأهبون لدخول دور السينما في لباس أنيق وأزياء مرصّعة ، بأكسسوارات لامعة ومجوهرات ثمينة ، حتى خُيل لنا أنهم يستعدون للاحتفال والسهر وليس لمشاهدة فيلم سينمائي ....صُور ترجمت حقا المعنى الحقيقي للسينما والموضة معا ، خصوصا مع ظهور العارضات وهُنّ يجُبن الشوارع المحيطة بقصر المهرجانات .. الجزائر حاضرة في القرية الدولية في حدود الواحدة بعد الزوال اتجهنا نحو جناح الجزائر رقم 107 بالقرية الدولية في " كان" ، هناك استقبلنا ممثلو وكالة الإشعاع الجزائري وممثلو إدارة مهرجان وهران للفيلم العربي الذين احتفلوا ذلك اليوم بالسينما الجزائرية ...التقينا هناك بأسماء لامعة في السينما على غرار المخرج " كريم موساوي" ، "صابرينة دراوي"، "سليم آغار" ، " سعيد ولد خليفة"، " إلياس سالم " ، المخرج الفرنسي " يان آرتوس بيرتران " و الجزائري " يزيد تيزي" اللذان عرضا مقتطفات من فيلمهما الوثائقي "الجزائر نظرة من السماء" ، فمشاهدتنا لتلك المناظر الطبيعية المختارة حول الجزائر كانت أكثر من رائعة، ما بعث في نفوسنا الكثير من الفخر والاعتزاز ، الجناح الذي كان يطل على ميناء " كان " لليُخوت " قدّم حلويات جزائرية تقليدية والكثير من التمور كخطوة للترحيب بضيوفه الذين أبوا إلا أن يشاركوا الوفد الجزائري فرحته واحتفاله بمرور أربعين سنة على تتويج المخرج محمد لخضر حامينا ب "السعفة الذهبية" التي تحصل عليها سنة 1975 في مهرجان " كان" الدولي عن فيلمه "وقائع سنوات الجمر "، كما تم تكريم الراحل " عمار العسكري" و الفقيدة "فتيحة بربار " وغيرهما من صناع السينما الجزائرية الذين غيّبهم الموت خلال السنوات القليلة الماضية ، بعدها نظم الوفد الجزائري مأدبة غداء على شرف المدعوين وسط أجواء حميمية راقية زادها الديكور الهندسي الذي عكس البيئة التقليدية للجزائر بهاء وعنفوانا ..وبعد ثلاث ساعات تقريبا قضيناها بجناح الجزائر ، قررنا التجوّل وسط القرية الدولية ل " كان " التي كانت تعجّ بالسياح ، فالبعض كان يلتقط صورا تذكارية والبعض الآخر كان جالسا بالمقاهي المنتشرة هنا وهناك ، وكما كان متوقعا فصُور " السيلفي " كانت الأبرز في هذا الحدث السينمائي ، إذ لم يُفوت عشاق " كان " فرصة تواجدهم بقصر المهرجانات وأمام القاعات إلا واستغلوها في التقاط صور عبر كل ركن من أركان القرية الدولية ، لاسيما تلك النافورة التي يقف إلى جانبها استعراضيون بملابس ملونة براقة تسرَ الناظر وتبهره ، لكن ما شد انتباهنا أكثر هو رؤيتنا لأشخاص يحملون لافتات كُتبت عليها " نريد تذكرة رجاء "، وهي محاولة ذكية للحصول على تذاكر من أجل دخول القاعات ، خصوصا أن بيع هذه الأخيرة في السوق السوداء كان باهظا جدا .. إقبال كبير على أفلام الإثارة و " الأكشن" بينما كنا نستمتع بأجواء كان ونسماتها الناعمة ، وفي ركن هادئ من زوايا هذه المدينة الساحرة ، لمحنا مجموعة من الشباب يتسابقون نحو مسرح " لوميار " وكأنهم فوّتوا موعدا ما أو فاتهم لقاء شخص معين، فُضولنا جعلنا نشدّ أنظارنا نحوهم خصوصا أنهم كانوا يرتدون ملابس أنيقة جدا تليق بالسهرات والحفلات، وبالفعل أصابت ظنونا ما كانت تخمن فيه عقولنا ، هم متجهين نحو القاعات من أجل مشاهدة فيلم سينمائي ؟ ، هذه المرة لم نتفاجأ البتة لأنه سبق لنا أن أخذنا فكرة عن العشق المقدس للسينما في هذه المدينة والهوس الكبير بهذه الأفلام،اقتربنا كغيرنا من الزائرين من أجل دخول القاعة التي كانت ستعرض فيلم الإثارة " ماد ماكس ، طريق الغضب " للمخرج الأسترالي " جورج ميلر" الذي جاء خصيصا لمهرجان " كان " من أجل عرض الجزء الرابع من فيلمه الشهير خارج المنافسة ، ورغم إدراكنا لأهمية هذا العمل السينمائي إلا أننا لم نصدق الإقبال الهائل للمشاهدين الذين جاؤوا من كل حدب وصوب حتى يشاهدوا فقط النجمة الجميلة " شارليز ثيرون " ، تلك الحسناء التي ظهرت بفستان أصفر جميل يعكس أناقتها وحسّها الأنثوي يرافقها المخرج الأنيق " ميلر " صاحب الابتسامة العريضة الذي تعامل باحترام كبير مع محبيه وجمهوره ، الفيلم الذي عرض لأول مرة عالميا وكما كان متوقعا قدم الكثير من مشاهد الأكشن والإثارة من خلال قصة خيالية يتقاتل فيها البشر من أجل احتياجاتهم من ماء وغذاء ، ووسط هذه الفوضى يلتقي" ماكس" ب " فيوريسا "وهي امرأة غامضة تحاول قطع الصحراء للوصول إلى موطنها الأصلي ، هذا إضافة إلى عرض أفلام أخرى على غرار الفيلم الوثائقي " آيمي " الذي سلط فيه المخرج " آصف كاباديا " الضوء على حياة المغنية وكاتبة الأغاني البريطانية " آيمي واينهاوس " التي توفيت سنة 2011 إثر إصابتها بالتسمم ، والفيلم الخيالي الساخر "جراد البحر" ، إضافة إلى فيلم " ذو روفار" الذي تدور أحداثه في المستقبل القريب حول رجلان " قاي بيرس" و" روبرت باتينسون " يعبران الصحراء الاسترالية للانتقام من أفراد العصابة الذين سرقوا سيارتهم .، وعلى الرغم من أن الزيارة التي قادتنا إلى مدينة " كان " مرت وكأنها حلم صبا ، حيث وبالرغم من قصر الفترة التي قضيناها بهذه الحاضرة الفرنسية الساحرة إلا أننا اكتشفنا مدى عشق واهتمام الفرنسيين بالسينما ، حيث وطيلة المهرجان لاحظنا مدى إقبال عشاق الفن السابع على قاعات عرض الأفلام دون كلل أو ملل . موسيقى ، فرح وأزياء مال ميزان النهار وانحدرت الشمس إلى مغربها ، فكان النسيم باردا رطبا يترقرق فيلامس الوجوه بخفّة ، ليرسل القمر أشعته على الشاطئ كأنها أحجار من الماس تضيء فتنعكس عنها ألوان ذهبية براقة تملك القلوب و تسلب الألباب ، فرغم أن الليل أرخى سُدوله على المدينة إلا أن " كان " كانت لا تزال مستيقظة بفرحها وموسيقاها و أزيائها ، فهي أكثر المدن المشهورة بالموضة و إطلالات الأزياء المميزة حتى في الليل ، حيث كان زائروها لا يزالون يتجوّلون بالقرب من محلات الموضة العالمية المنتشرة في كل مكان ، لاسيما بشارع " أنتيب " باعتباره الشارع الأفضل للتسوق، خصوصا مع التخفيضات المُغرية التي أسالت لُعاب عشاق الموضة منذ بداية الحدث السينمائي ، وغيره من الشوارع التي تضم أفخر المطاعم الفرنسية وحتى العربية و اليابانية والتركية ، اقتربنا من مقهى المشاهير في فندق " كارلتون " المواجه لقصر المهرجانات ، علّنا نلتقي بنجوم هوليود الذين غالبا ما ينزلون به نظرا لفخامته وشُهرته ، وهو فندق قديم فتح أبوابه سنة 1912 ما جعله المفضّل لدى الملوك والمشاهير ، ويُقال إن 90 بالمائة من زبائنه من العرب ، حيث أن الباب الرئيسي للفندق كان يشع بالأضواء الزاهية التي ترجمت سحره و أناقة الديكور المعاصر التي تم اختياره بعناية فائقة ، مما زاد في روعته وترجم الفخامة الفرنسية الفعلية للمكان ، ناهيك عن نوافذه الزجاجية الكبيرة التي كانت تطلّ على معالم المدينة الخلّابة ، مثله مثل فندق " ماجستيك باريار " المُطل ّعلى البحر ، وفندق " مارتيناز " الذي افتتح عام 1929 وهو أكبر فندق ب " كان " ، حيث يضُم أكثر من 403 غرفة و22 جناحا ، وغيرها من الفنادق الفخمة الأخرى التي أغرت السائح وجعلته يستنزف كل أمواله حتى يحجز غرفة به رغم غلاء الأسعار ، ووسط زحام كبير في شوارع " كان" الفرنسية عززت مصالح الأمن جهودها ، حتى تضمن السير الحسن للمهرجان وتوفر الراحة التامة والأمان للزائرين . مُصمّمون و نجمات بالشوارع
ولأن زيارتنا لمدينة " كان " الساحرة لن تكتمل إلا بجولة خاطفة إلى محلات الموضة والأزياء، اتجهنا في الساعات الأولى من طلوع النهار الموالي إلى شارع " أنتيب " الذي كان يعجّ وقتها بالنجوم وعارضات الأزياء وكذا السّياح ، وهناك أخبرتنا سيدة مصرية أن المصمّم اللبناني " إيلي صعب " متواجد في فندق " مارتينز" بجناح خاص ، حيث جاء خصيصا لتقديم آخر فساتينه لممثّلات ونجمات هوليود ، علاوة على تقديمه لعطره الجديد ، والأهم من ذلك أن الجناح مفتوح أمام الإعلاميين حتى يتمكنوا من تصوير أزيائه وعارضاته ، وبالفعل سارعنا نحو الفندق علّنا نستفرد بمقابلة حصرية مع مصمم الأزياء العالمي، لكن للأسف لم نستطع الدخول بسبب العدد الهائل من الإعلاميين الأجانب وأيضا الزوار الذين كانوا يحاولون الدخول إلى الفندق، رجعنا وخيبة الأمل بادية على مُحيّانا ، لندخل بعدها إلى محل " سيفورا " الشهير حيث كانت المفاجأة ، إذ التقينا بعارضة الأزياء الشهيرة " ميرندا كير " التي هربت من عدسات كاميرا المصوّرين وقرّرت التسوّق بمفردها بعيدا عن الأنظار ، اقتربنا منها وحييناها فبادلتنا نفس الشعور بكل حب واحترام، فأخبرناها أننا من الجزائر ، ردت مبتسمة " أحب هذا البلد .." ، تابعنا جولتنا في محلات أخرى حيث كان الناس من مختلف الأجناس يتحدثون بكل اللغات ، فلا يمكن الإنكار أن التسوق هواية لا يمكن الاستغناء عنها مهما تطلب الأمر ..وفي الأخير وبعد عناء يوم طويل عُدنا إلى الفندق حاملين في قلوبنا وعقولنا الكثير من الذكريات الجميلة عن هذه المدينة الساحرة ، فرغم المدة القصيرة التي قضيناها بها إلا أنها كانت كفيلة بوقوعنا في غرامها ... وضَبنا حقائبنا وكلنا أمل أن نعود إلى هذه الشوارع الفرنسية التي لا يمل منها السائح أبدا ...