لقد سجلت أقلام الأدباء الجزائريين، على مر العصور، نصوصا أدبية متسمة بالأناقة الأدبية، و مشبعة بالخصوصيات الأسلوبية التي يجب أن يتوفر عليها كل نص ذي شأن، و سواء كانت هذه النصوص فصيحة أو عامية في مختلف لهجاتها. و مساهمة متواضعة مني في التنبيه إلى ضرورة العناية بهذه النصوص، ارتأيت أن أساهم، على صفحات " النادي الأدبي "، بتقديم موجز عن بعضها و عن بعض ما تتميز به من رقي فني، و عن بعض ما يقابلها، إن على مستوى الواقع، أو على المستوى التأويلي الإيحائي؛ أو ما يصطلح عليه ب " الصدى " الذي يحدثه النص أو الذي يؤثث النص... لقد أثرى الروائي " عرعار محمد العالي " مساحة النصوص السردية الجزائرية بكم هائل و رائع من النصوص السردية؛ رواية و قصة قصيرة. و لقد رسم "عرعار" لنفسه أسلوبا متميزا في بناء معماره السردي هذا الذي يمكن إجماله في؛ حسن استغلاله لتقنيات السرد مثل الحوار و المنولوج و الارتداد،مثل ما نجده في رواية " البحث عن الوجه الآخر " و في إرواء وقائعه من عمق الواقع اليومي للفرد الجزائري مع إضفاء شيئا من الأسطورية و من التخيل على هذا الواقع،مثل ما فعله في نص " ما لا تذروه الرياح " و كذا في توظيف شخصيات و وقائع تاريخية في نصوصه بصورة شفافة و ذكية جدا مثل ما نقرأه في " زمن القلب " و " الطموح ".و لقد أثرى "عرعار" مكتبة النصوص السردية الجزائرية بأكثر من سبعة عشر (17) نصا ما بين رواية و قصة قصيرة. ... وخرج من الحجرة البيضاء و في هذه السطور الموجزات أجد رواية " الطموح " التي صدرت في سنة 1978م، ذات حمولة إيحائية قوية إن في دلالة الوقائع و الأحداث المتنوعة التي تزخر بها ؛ التاريخية، النفسية، الآنية، الحقيقية، الأسطورية، التخيلية، أو في الحبكة و التأثيث الفنيين. و تبدأ وقائع هذه الرواية بالجملة التالية :"..ضم خليفة يديه إلى صدره بقوة و شعر ببعض الدفء يعم نفسه..إن هذا الوضع يهيئ له من الراحة و الاستمتاع أحسن من أي شيء آخر.." و تنتهي بالفقرة القائلة: "..خرج من الحجرة البيضاء، من المستشفى المدني الكبير، المشيد في غابة خضراء، وارفة الظلال، ثلاثة أشباح بيضاء، نقية، سمت إلى آفاق السماء المزدانة بالنجوم المتلألئة، و غادرت إلى لأبد هذه الأرض التي تزحف الحياة على سطحها مثل السلحفاة..". و بين الفقرتين تقع أحداث و وقائع بعضها متخيل و بعضها وقع أثناء ثورة التحرير و البعض الآخر مستوحى من التاريخ الوطني المجيد، مع ملاحظة أن كل ما وقع و كل ما يقع من أحداث داخل هذا النص كان يرتب و يفصل وفق الحمولة النفسية المضطربة و القلقة للبطل" خليفة " و يفسر و يؤول تحت مجهر الحمولة المعرفية و المكتسبات الفلسفية للأستاذ الجامعي "سليمان "، كما كان يطعم، و يؤنق، و يثرى على معابد حب و عشق " طيبة " الفتاة الأسطورية في جمالها و في تداخل خصوصياتها مع خصوصيات " رقية " الأم التي تقاطعت جزئياتها حياتها مع جزئيات ابنها " خليفة ". وإذا كان ثراء الشخصيات و تنوعها في الدلالة و في الإيحاء و في الأبعاد، من مميزات هذا النص، فإننا نلاحظ بناء جماليا رائعا بين الأبعاد المكانية الثلاثة الكبرى؛ البيت العائلي، الجبال و الغابات، و الجامعة، ذلك البناء الذي يحمل في دلالته أبعادا و دلالات كثيرة، لعل أقربها إلى القبول تشتت مكونات حياة الإنسان و تمكن تربية البدء في تشكيل الوجود الإنساني عبر مسارات موغلة في الإبهام و مسكرة بالمفاجآت مثل ما توحي إليه الفقرة القائلة: "..فقد كان الشارع الأول كثير الأضواء متعدد الواجهات ضخم البنايات، و إن كان الآن في هذه الساعة المتأخرة من الليل هادئا، يوحي بالسلام، إلا أنه سوف لن يبقى طويلا هكذا..فهو مثل الوحش يستريح لحظة ثم يعود فيستيقظ و يروح يزأر و يعوى و ينبح.."ص 6، أو كما نجد في الفقرة القائلة: "..تقدم خليفة إلى المكتب، و عند ما تفحص صاحب الحمام، رأى له عينا عوراء غشي بؤبؤها البياض فتضايق منه. لكنه رغم ذلك.."ص 7.
الصدى...و الإيحاءات الدلالية إن تاريخ صدور هذه الرواية لا يمكن نسيانه بسهولة، لأنه تاريخ شهد وفاة أول رئيس للدولة الجزائرية الحديثة، و ذلك من ثلاث جهات على الأقل؛ أولاهما أن هذه الوفاة ما زالت أسبابها مجهولة حتى الساعة، و ثانيتهما، أن هذه الوفاة خلفت قلقا و توترات و ولدت صراعات خفية و علنية داخل أجهزة السلطة الجزائرية فيمن يخلف المرحوم " بومدين "، أما ثالثة الوجهات فتتمثل في تسلم المرحوم " الشاذلي بن جديد " لرئاسة الدولة و هو الشخصية التي لم تكن من ضمن الشخصيات لاستخلاف المرحوم " بومدين ". فلا عجب إذن إن كانت الإيحاءات و الدلالات العامة لنص " الطموح " تتآزر مع ما كان يحدث حينذاك و مع ما كان سيحدث في ذات يوم من 05 أكتوبر 1988م. تلك الدلالات التي تتقاطع في شخصية " خليفة " و تنازعه نفسه في إيجاد فسحة للعودة إلى زمن الطهر و التآزر حين "..استرجع..قوته، و صمم على أن يسترجع تلك الروح التي خرجت من مسام جسمه و غادرته. قرر أن يعيدها و يدخلها فيه. إن هذا شيء حتمي. إنه بدونها غير متحسس لنفسه. فلينادها. فليرج منها العودة. فليطلب منها الرجوع إليه. فليثر على هذه الأشباح المفزعة التي روعت روحه.."ص 11، كما، لاشك، و أنها تتقاطع و تتداخل مع الوعي الجمعي الذي حدث للمجتمع الجزائري بعد سنوات السبع العجاف(1990 1997).. و يظل نص " الطموح " محملا بكم هائل من الأبعاد و الدلالات التي يمكن لكل قارئ، و فق ذائقته القارئة و تحت معيار تملكه المعرفي، أن يقع عليها و يتمتع بنسقها الجمالي، و بالتالي يعجب بحبكة و من بناء حيثياتها الجمالية بمرافقة أسلوب لساني رائق و ممتع.. خارج النص و الصدى من الملاحظة الغريبة، والتي ربما تفتقد إلى المبررات الموضوعية، أن "عرعار محمد العالي" على الرغم من تميزه عن الكثيرين ممن أشبعت نصوصهم السردية بالنقاش و بالدراسة، لم يحظ بما يناسب المجهود الذي بذله في هذا السبيل، و لا بما يناسب الخصائص الفنية و الجمالية التي تتميز بها نصوصه التي منها، بالإضافة إلى ما أشرت إليه سابقا، "اعترافات حميمية = مجموعة قصصية" "بصدر مفتوح = رواية" "سباق المجد = رواية" "لوحات = مجموعة قصصية" "الأرواح الشاعرة = مجموعة قصصية" "الآمال الزائفة = رواية " مجموعة قصصية" "نوافذ = مجموعة قصصية"...إلى متى هذا التجاهل؟.