القصة القصيرة لم تعد تغري الكتّاب في رصد تعقيدات العالم العربي " متاهة العميان " و " الرواية والسينما " جديدي الأدبي أكّد الروائي برهان شاوي أن هناك الكثير من التّحديات التي أصبح يواجهها المثقف العراقي اليوم لدرجة أنه بات لا يستطيع التركيز على جبهة معينة ، ما جعل العديد من الأدباء العراقيين يكتبون عن وضع بلاد الرافدين لاسيما بعد الاحتلال، مثله تماما عندما كرس كل أعماله الروائية الأخيرة حول المشهد الحقيقي لما يجري في بلده ، كما أوضح برهان شاوي في الحوار الحصري الذي خصّ به أمس جريدة الجمهورية أن الكتابة الروائية غطّت بشكل جليّ على السّرد القصصي الذي بات غير مناسب لرصد تعقيدات العالم العربي و أزماته ، كاشفا في ذات الصدد عن جديده الأدبي في الرواية و الدراسة التحليلية إضافة إلى تفاصيل أخرى تابعوها في اللقاء التالي : ما هو تقييمكم للرواية العراقية في العقد الأخير وأين مكانتها في المشهد الأدبي العربي؟ برهان شاوي : شهدت الرواية العراقية بعد عام 2003 طفرة في الكتابة الروائية ، فقد صدر كتاب لأحد الكتاب والنقاد العراقيين عن الرواية العراقية خلال عقد من الزمان بعد الاحتلال أحصى فيه حوالي 400 رواية، بحيث غطت على معظم أشكال الكتابة الأدبية ، أما في ما يخص مكانتها في المشهد الأدبي العربي ، فيمكن للنقاد المنصفين الموضوعيين أن يجيبوا عليه وبموضوعية شديدة، وبدون تحيز، حيث أن هناك أسماء روائية معتبرة في المشهد الروائي العراقي . في رأيكم ما هي التحدّيات التي بات يواجها المثقف العراقي عموماً ؟ التحديات التي تواجه المثقف العراقي كثيرة ومتراكمة ، تحديات لمشاكل ورثها سابقا كالحريات الديموقراطية والسياسية وحقوق الإنسان وحرية التعبير والعقيدة والفكر، وتحديات جديدة واجهته بعد احتلال العراق ، مرورا بتحدي الإرهاب والانتهاء باحتلال "داعش" لأكثر من ثلث مساحة العراق ، لقد تراكمت التّحديات أمام المثقف العراقي بحيث بات لا يستطيع على أية جبهة يركز، لكن بالتأكيد هناك ترتيبات في حدة هذه التحديات.. الإنسان موقف الجمهورية : هل تعتقدون أن الكتابة الروائية غطّت اليوم على السّرد القصصي في العالم العربي؟ برهان : يمكنني الإجابة بنعم ، فمن خلال تتبع الإصدارات التي تقدمها دور النشر نجد لا نسبة أو تناسب بين الإصدارات الروائية وإصدار مجموعات القصة القصيرة ، وأعتقد أن القصة القصيرة لم تعد تغري الكتّاب، لاسيما كتاب القصة القصيرة في رصد تعقيدات العالم العربي السّياسية والاجتماعية والنفسية، فالرواية هو مكانها الأفضل ، لكن هذا لا يعني غياب فن القصة القصيرة وإنما يعني تقدم الرواية بسرعة، وربما يمكن القول إن القصة القصيرة مرّت أيضا بتحوّلات على مستوى البناء السّردي فتكثفت واقتربت من الشعر، بل وتطورت نحو فنّ القصة القصيرة جداً، بل هناك بعض الأسماء التي كانت قد بدأت بكتابة القصة القصيرة ثم تحولت إلى الرواية مثلما تحول العديد من الشعراء من الشعر إلى الرواية أيضا . لا يمكن الإنكار أنكم من أهم الأسماء الأدبية التي لها بصمة خاصة في الفكر العربي، ومن الشخصيات التي أماطت اللثام عن واقع المجتمع العراقي، فما هي الحلول الناجعة لإخراج المثقف من الظلمة إلى النور؟ الحقيقة سؤال المثقف سؤال دقيق وحرج ، فعن عن أي مثقف نتحدث أولاً ؟ لدى السلطة مثقفوها الذين هم لسانها ومنظرّوها ، وهم من يطلق عليهم المفكر اليساري الإيطالي " انتونيو غرامشي" اسم "المثقف العضوي" وهؤلاء أساسا تحت الأضواء الباهرة، مهما كانت هذه السلطات سوداء ومعتمة، أما المثقّف الذي هو خارج دائرة أضواء السلطة ، فهو أما أن يكون منتميا لحزب سياسي خارج السلطة، أو يكون فردا أعزلا عليه مواجهة الجميع، وهذا أمر ليس بالسهل ولا يصبر عليه إلا قلة نادرة ،لكن مهما يكن فكما قال سارتر: " الإنسان موقف "، وفيما يخص المثقف العراقي فالأمر أعقد بكثير، في ظل بلد مرّ بعقود من الحروب والحصار الجائر، وتدمير البنى التحتية لاقتصاد المجتمع، مثلما تم تدمير منظومته الأخلاقية، ثم انتهى الأمر باحتلاله من قبل أمريكا وحلفائها، وتدمير ما تبقى من بنى تحية مهشمة، بل وتشتيت طاقاته البشرية وتشريدهم، لست وحدي، وإنما العديد من الأدباء العراقيين كتبوا عن وضع العراق، لاسيما فيما بعد الاحتلال، وشخصيا كرست كل أعمالي الروائية الأخيرة بدءا من رواية:"الجحيم المقدس" ثم رواية " مشرحة بغداد " مروراً بسلسلة المتاهات الروائية "متاهة آدم، متاهة حواء، متاهة قابيل، متاهة الأشباح، متاهة إبليس، متاهة الأرواح المنسية. محاولأ تقديم المشهد الحقيقي لما يجري في العراق، صحيح أنني لا أكتب عن العراق فقط، وإنما رواياتي تتنقل في جغرافيتها وتتوع في شخصياتها، إلّا أنها تسعى إلى تقديم المشهد العراقي بكل رعبه وكوابيسه. لا أتدخّل في الكتابة الأولى للنص هل ينفصل برهان شاوي عن شخصيته عندما يكتب؟ أم أن جزءا كبيرا من ذاتيه تدخل في ما يخطه على صفحات مؤلفاته ؟ أنا أكتب في مختلف مجالات الكتابة بحكم مهنتي الأكاديمية والإعلامية والأدبية، فحينما أكتب بحثا أكاديميا بالتأكيد أكون مختلفا عما أكونه حينما أكتب رواية ، لكن أتصور أنك تسألين عن الكتابة الروائية، وهنا أود التوضيح بأن تفكيك فعل الكتابة هو عملية معقدة جداُ، يتداخل فيها لاوعي الكاتب ووعيه بطريقة عجيبة ، وليس من السّهل اقتناص ذات الكاتب في النص الروائي ، وكثيرا ما يسألني قرّاء رواياتي عن شخصيتي من بين عشرات الشخصيات في رواياتي، ويخمنون هذه الشخصية أو تلك، والحقيقة أنني غير موجود في أي من شخصيات رواياتي ، لكني موجود أيضا، بمعنى أنني أوزع أفكاري وتجاربي على شخصياتي حتى لو كانت متناقضة، بل وأحيانا أمنحها لشخصيات نسوية في رواياتي ، أين أنا من بين هذه الشخصيات..؟ لا أدري. فكل هذه الشخصيات من ناحية أخرى هي أنا.. أنا مبدعها على الورق، وفي الحقيقة أنني لا أستمد الحياة والتجارب لشخصياتي من تجربتي الشخصية فقط، وإنما من تجارب الآخرين ومن تجارب شخصياتي نفسها، فلكل شخصية روائية لدي هناك شخصية واقعية روت لي حكايتها ومصيرها واعترافاتها، مزجتها أنا بطريقتي وأعدت خلقها روائيا ومنحتها السمات الفنية. وهنا أود العودة لسؤالك عن تدخلي في السرد الروائي أثناء الكتابة..! فالحقيقة أنني لا أتدخل في مسار أحداث الرواية، وهذا ما يثير استغراب الكثيرين من أصدقائي المقربين، لا أخطط لرواياتي وأحداثها، بل أحيانا أتوجه لجهاز الكمبيوتر وفي ذهني تصوّر أولي لمسار الأحداث لفصل معين، لكنني ما أن ابدأ بتحريك الشخصيات حتى تختفي كل تصوراتي وتنشأ علائق وأفكار جديدة، لذا يمكنني القول بأنني لا أتدخل في الكتابة الأولى للنص وإنما أتدخل حينما أعيد القراءة للنص وأبدأ بتشذيبه وتعديل كلمة هنا، وإضافة جملة هناك. ماهو الجديد الأدبي الذي تعكف على تحضيره حاليا ؟ أنا الآن منشغل بثلاثة كتب متوازية، أولها كتابة المتاهة السابعة، والتي وضعت لها عنوانا أوليا هو"متاهة العميان". وثانيا أعكف على كتابة دراسة طويلة ربما ستكون كتابا حول "العنف في النص المقدس" ، و ثالثا " عودة لتخصصي الأولي وهو السينما، حيث أنني منهمك بانجاز كتاب عن " الرواية والسينما ".