استطاع الروائي العراقي عواد علي أن يحتل مكانة متميزة في الفضاء الروائي العراقي، رغم أنه جاء متأخرا للكتابة الروائية، فأول عمل روائي صدر له بعنوان “حليب المارينز”، كان عام 2008، ورصد فيها تداعيات الاحتلال الأمريكي للعراق. وفي عام 2009، أصدر رواية “نخلة الواشنطونيا”، التي تقارب الاحتلال مرة ثانية، وتدور أحداثها سنة 2006، أكثر السنوات دموية في العراق. وانهى ثلاثيته برواية “حماقة ماركيز”. التقت به “الخبر” أثناء زيارته للجزائر للمشاركة في فعاليات المهرجان الوطني للمسرح المحترف، فتحدث عن تجربته الأدبية. كيف انعكس الوضع المأسوي في العراق اليوم على الكتابة الإبداعية؟ رغم الأزمنة الصعبة التي يمر بها العراق حاليا، فإن الأدب العراقي لا يزال يقدم أعمالا ابداعية جيدة. ثمة تواصل بين الأجيال، وظهور كتّاب جدد في القصة والرواية والشعر. والرواية تحديدا حدثت فيها نقلة نوعية وازدهار. بدايات هذا الازدهار تعود إلى النصف الأول من التسعينات، وتبلور بشكل أكثر وضوحا مع نهايتها ومع الاحتلال الأمريكي، حيث توجه أغلب الروائيين العراقيين من الجيل الجديد إلى مقاربة هذا الزلزال الكبير الذي شهده العراق، وهو الاحتلال، فظهرت أعمال روائية تناولت هذا الموضوع من مختلف الزوايا. ولم يقتصر الابداع الروائي على أدباء الداخل فقط، وإنما هناك عدد من الروائيين الذين يعيشون في المنافي وبلدان الهجرة. هؤلاء كتبوا روايات استقرأت وقاربت الوجع العراقي وأثر الاحتلال، على غرار الكاتبة إنعام كجاجي، وحمزة الحسن وعلي بدر وآخرين يعيشون في الخارج. إن ما جرى بعد الاحتلال فيه جانب سلبي وآخر ايجابي. تمثل الجانب الايجابي في حدوث طفرة في الرواية العراقية على صعيد المواضيع والأساليب الروائية. هذه التجارب بدأت تأخذ إمكانيات سردية حديثة تستخدم أحدث الأساليب التي شاعت عبر العالم في ما يتعلق بمفهوم الراوي، والبناء السردي والمزاوجة بين الواقع والغرائبية، واقتربت أكثر من الواقع، فالروائيون يملكون جرأة كبيرة، خاصة الذين يعيشون خارج الوطن، حيث أصبح بإمكانهم تسمية الأشياء بمسمياتها بعد أن كانوا غارقين في الرمزية خوفا من الرقيب. بدأت بكتابة القصة القصيرة، وجئت متأخرا للرواية، لماذا؟ فعلا، جئت متأخرا لكتابة الرواية، بدأت أكتب الرواية في اليوم الثاني من الاحتلال الأمريكي للعراق، أي يوم 10 أفريل 2003. قلت كيف أعبّر عن ذلك، وما هو أفضل شكل أدبي للتعبير عنه. وجدت أن الرواية هي الحل. كنت في السابق أرتدد وأتخوف من كتابة الرواية. كتبت القصة القصيرة في سن مبكرة وأنا في سن ما قبل العشرين، ونشرت عدة قصص قصيرة. وكنت أعتقد أن الرواية صعبة ولا تكتب إلا في مرحلة النضج الفكري والتمكن الكامل. روايتك الأولى “حليب المارينز” قاربت وجع الاحتلال... كتبت أول رواية بعنوان “حليب المارينز”، التي تدور أحداثها بين كندا التي كنت أعيش فيها والعراق. كما تتنوع فضاءاتها على بلدان أخرى، عربية وأوروبية. ما أردت قوله في تلك الرواية، هو أن أمريكا لم تأت للعراق لكي ترضع شعبه من حليبها المدرار وتحرره، وإنما جاءت حاملة ما يعنيه صندوق “باندورا” حالما تكشف عنه تظهر كل الشرور. وتنبئي كان في محله، حيث بدأت تظهر الانتماءات الفئوية الضيقة المذهبية، والاثنية على حساب الهوية الوطنية الكبرى الجامعة. وبدأ الصراع والاقتتال بين مكونات الشعب العراقي، بدلا من بناء دولة وطنية كنا نحلم بأن تكون دولة ديمقراطية تجمعنا في إطار وحدة وطنية. هل برز حنين إلى عهد صدام حسين في أوساط الكتّاب العراقيين، بسبب كل هذه المأساة؟ طبعا هناك من يشعر بالحنين إلى الوحدة الوطنية، حيث لم يكن آنذاك السؤال الطائفي موجودا. كنا نعيش في نسيج اجتماعي ووطني، ولا يخطر على بال أحد أن صديقه الأديب ينتمي الى طائفة معينة. والدليل، أنني شخصيا لم أكن أعرف المرجعية المذهبية لأقرب المقربين لدي إلا خلال السنوات الأخيرة. صديقي هذا فنان تشكيلي، وكان معي في مقاعد الدراسة ولم أكن أعرف أنه ينتمي للطائفة الصبائية. هكذا جاءت ثلاثيتك عن العراق لتقول الوجع، كيف برزت فيها المأساة؟ هذه الروايات الثلاث فيها فسيفساء النسيج العراقي المتكون من الأديان، والاثنيات، والمذاهب، ففي كل أعمالي تجد العربي، والكردي، والتركماني والمسيحي والصابئي، بل حتى البهائي. في موازاة هذا التعدد الاثني والمذهبي، اعتمدت على التعددية الصوتية، وجعلت كل شخصية تروي فصلا من فصول الرواية لتعبّر عن مأساتها بنفسها. وهل رواية “نخلة الواشنطونيا” استمرار لمقاربة هذه المأساة؟ نعم هي استمرار، لكن أحداثها تدور في فترة عام 2006، أي خلال ذروة الاقتتال الداخلي والصبغة الطائفية. تدور أغلب أحداث هذه الرواية، في بغداد سنة 2006، وهي السنة الأكثر دمويةً وخراباً في تاريخ العراق الحديث، وارتفاع موجة العنف الأهوج في البلاد، وتزايد عمليات التطهير والتهجير الطائفيين. وتسترجع بعض شخصيات الرواية أحداثاً جرت في مدن أخرى من العراق، مثل كركوك، وشهربان خلال حربي الخليج الأولى والثانية. وكان الحال آنذاك أقرب إلى الحرب الأهلية بسبب الاقتتال الطائفي. هجرت إلى كندا ومكثت بها سنوات طويلة، كيف أثرت الهجرة على تجربتك الأدبية؟ عندما تكون خارج البلد تتاح لك فرصة أكثر للإطلاع على الثقافات الأخرى وتستفيد من التجارب الأدبية المغايرة. بالمقابل، يتمثل الجانب السلبي في ما نسميه هذا الحنين القاتل للمكان والأصدقاء والأهل، وأيضا تفتقد الفرصة لكي تتعايش مع ما يجري في بلدك، فالتجربة مهمة جدا، يجب أن تكون قريبا من الحدث لكي تكتب. هل معنى هذا أنك روائي واقعي؟ روائي واقعي نعم، لكنني أميل إلى توظيف الفنتازيا والواقعية السحرية، فأنا لست مؤرخا ولا مدوّنا للأحداث، بل روائي يعيد قراءة الأحداث برؤيته الخاصة، أضفي عليها الفنتازيا، وأخلق نوعا من الوشائج بينها وبين التاريخ. وهل لديك طقوس معينة أثناء الكتابة؟ اقرأ كثيرا لما أكتب الرواية. لا أتيها أبدا بدون القراءة. أكتب بوعي. والكتابة عندي أشبه بكتابة بحث. خلقت تشابها كبيرا بين شخصية سامر، في رواية “حليب المارينز”، وبين جلجامش. سامر ذهب إلى كندا وقد قيل له إنه موجود فيها نبتة للعلاج من داء في الكلية، وجلجامش ذهب إلى أعماق البحر بحثا عن نبتة الخلود، لكي يخلد بها صديقته انكيدو. وفي روايتي الأخيرة “حماقة ماركيز” تجد فيها مرجعيات تاريخية وأسطورية ودينية، فيها إضاءات مركزة على الديانة البهائية وطقوسها، وكتبها المقدسة، ليس بشكل مقحم، وإنما لأن بطل الرواية كان في الأصل بهائيا ثم أسلم. لماذا أدرجت اسم ماركيز في روايتك الأخيرة “حماقة ماركيز”؟ بطل هذه الرواية سلمان البدر، هو خريج اللغة الاسبانية وعاشق لغارسيا ماركيز الروائي الكولومبي الشهير، وقارئ لكل أعماله باللغة الأصلية، حتى أنه كان يتردد على سفارات أمريكا اللاتينية للحصول على نسخ من روايات ماركيز في الثمانينات. هذا العشق رافقه حتى وهو في الجبهة، بحيث أخذ معه كتب ماركيز وكان يفرح عندما يسميه أصدقاؤه بالجبهة “غابو”، لكنه إنسان مثالي ولا يفقه في الحرب. تدور أحداث الرواية في مدينة أرابخا (كركوك) خلال يوم واحد في شتاء عام 2009، لكن الشخصيات تسترجع أحداثا تمتد إلى 23 عاما، وتدور فضاءاتها في جبهات الحرب العراقية الإيرانية ومدن عراقية أخرى وتركيا واليونان والمكسيك وكولومبيا، في سياق سردي يجمع بين المنحى الواقعي والغرائبي، وتنتصر الرواية لعلاقة الحب بين البشر ضد الكراهية. ولماذا تهتم كثيرا بالغرائبية والفنتازيا في أعمالك؟ الواقع العربي فيه من اللامعقولية والغرائبية والأحداث التي لا تصدق ولا يقبلها العقل، حتى وجدت الواقعية السحرية قبولا من الروائيين العرب، وكثيرا منهم أدرجها في أعماله الأدبية. وهل تأثرت كثيرا بماركيز؟ نعم، شخصيا لا أخجل أنني تأثرت بماركيز، فهو قريب جدا من التراث السردي العربي، وكما تعلم فهو قارئ لألف ليلة وليلة، ومثل بورخيس كان قارئا جيدا للتراث العربي. هل انتظر الروائيون العراقيون وقتا طويلا للتعبير عن المأساة؟ في سنة 1980 عندما بدأت الحرب الإيرانية العراقية، ظهر عندنا في العراق مصطلح قريب من معنى الأدب الاستعجالي، هو “مواظبة الحدث في حرارته وأثناء وقوعه”. وكان الأدباء يتساءلون حينها، هل على الأديب أن يكتب أم ينتظر فترة طويلة قبل أن يكتب لكي يستطيع تأمل الحدث؟ أم يكتب أثناء وقوعه؟ شخصيا أرفض فكرة الانتظار بأن أكتب عن الحدث بعد سنوات. ما يهمني هو امتلاك اللغة والتقنيات السردية التي تجعلني قادرا على تحويل الحدث إلى عمل إبداعي. وهكذا فعلت مع رواية “حليب المارينز”، التي استغرقت مني ثلاث سنوات من الكتابة، وكتبتها مباشرة بعد وقوع الاحتلال الأمريكي. لا أرى ضيرا في أن تكتب عملا إبداعيا، وأنت في معمعة الحدث. هذا يعود إلى قدراتك ومواهبك الأدبية.