أخيرا تراءت له القرية المشرية قادما إليها من البيوض ، والشمس ترسل بأشعتها في الأفق ، والناس يخرجون من ديارهم ينوءون بهمومهم وأشغالهم، و الخلاء المدثر بالشروق يترامى إلى مالا نهاية .. نحن في عام 1945 ، تقدم لمقدم سليمان نحو القرية متعبا ، وهو يمتطي صهوة حصانه، و قد لبس برنوسه وارتدى عمامته ، لمحه الخارجون، فاتسعت الأعين دهشة و فغرت الأفواه، وراحوا يتهامسون و يشيرون نحوه ،حتى قبل أن يردون تحيته، وجعل يشق طريقه نوح القرية ماضيا نحو مصيره و يردد بأعلى صوته : أوراس سيدي مايبقى لا رومي و لا يهودي و تابعته الأعين وهو يبتعد رويدا رويدا حتى بلغ وسط القرية،و مرّ بحوانيت القرية ، وتوقف أمام أول حانوت صادفه ، إقترب من بابه ، وشد على لجام دابته ، حتى انحنى رأسها و دلف إلى داخله وشفتاه تتحركان بكلمات مستمرة : عايد..عايد .. لا نصارى و لا قايد ورمق الملتفين حوله بنظرة حادة ، و لما آنس في الوجوه استغرابا صاح قائلا : يا ربي .. يا ربي حكم الرومي و لا حكم العربي .. العربي إذا حكم العربي .. الشردة لربي. و ارتاح الجميع إلى قوله، وكانوا في الحقيقة يدارون قلقهم المتزايد، وهم يستمعون إليه، غير أنّ الرجل استمر في كلامه وهو يترنح بفعل تحرك دابته : واك.. واك.. ذاك ياكل ذاك.. ذاك يقول حقي .. ذاك يقول منين جاك بدت الوجوه كالحة ومضى الوقت أثقل من المرض و تساءل صوت : "على وجه من أصبحنا اليوم ..؟ " عاد الرجل يقول : أيوة مازال ذاك الجبيل تخلق فيه نجيمة ضوي .. ثم أمسك برأس حصانه و جدبه إلى الخلف و مضى إلى حال سبيله ، هي الحياة الإنسانية الأصيلة ينطلق المجاذيب في جنباتها تفوح الحكمة من أفواههم .