حكاية صغيرة، شغلتني زمنا طويلا، أسرُّ بها اليوم لجريدة الجمهورية الغراء، بقلب مفتوح ولأصدقائي القدامى، لقرائي أيضا الذين يتابعون هذه الزاوية. كنت في الجريدة دائما إنسانا جادا، ومصغيا للمهام التي كنت أُكَلَّف بها. لا أرفض أي شيء حتى ولو كان تغطية بعيدة، وحتى خارج تخصصي، أو ترجمة عمل خارج أوقات العمل. كنت متعاونا جادا، لم أكن موظفا، لأن رهاناتي الأساسية كانت جامعية بالدرجة الأولى، لكنني كنت متشبثا بالممارسة الصحفية لأني وجدت في الرجل ذي الشعر الأبيض، الذي كنت أترجم له بعض مقالاته من الفرنسية إلى العربية، ضالتي وقدوتي أيضا في الكتابة الإعلامية. الفترة التي كنت أعمل بها في الجمهورية، بين 1975 حتى سفري إلى دمشق الحبيبة، لم تكن مستقرة. الثورة الزراعية كانت مثيرة للجدل، تعاطف واسع من جهة ، وردود فعل عدوانية من الإقطاع، الذي كان وراء الكثير من الضحايا من الطلبة المتطوعين. كنّا نسمع في لجان التطوع الطلابي بأن الكثير الطلبة والطالبات تم رميهم من أعالي الجبال لأنهم تعاطفوا مع الفلاحين في فترة تأميم الأراضي. وقيل إنهم انتحروا. لم يكن الوضع الأمني مريحا أيضا بالخصوص، بعد اكتشاف القنبلتين اللتين وضعتا في جريدة المجاهد الفرانكفونية. ثم أن يد النظام الحديدية كانت فوق كل شيء، وتراقب الصغيرة والكبيرة إعلاميا، وأي نقد لآليات النظام الملتبس بالدولة، قد يجر على صاحبه الويلات التي قد تصل إلى السجن أو أكثر. مرة سمعت الرجل ذا الشعر الأبيض، مثلي الأعلى في الصحافة، يقول، إن المنع خلق وسائل عدة لمراوغة الرقابة كالاعتماد على الأسماء المستعارة مثلا. لم أكن خائفا لأني لم أكن لا مهما ولا مخيفا في ذلك العمر. لكن الغريب هو أن حريتي في الحياة والكتابة، كانت تعني لي الشيء الكثير بشكل يكاد يكون غريزيا. لا أدري لماذا فعلت ذلك ولا حتى من أين جاءتني الفكرة؟ فقد عملت وسيطا بين جريدة الجمهورية، وبين كاتب عربي عراقي معارض، يعيش في الجزائر منذ انقلاب صدام في بداية السبعينيات، وبدء مطاردة المثقفين العراقيين اليساريين. أعوام شديدة القسوة والظلم. سنوات الرصاص الثقيلة التي دفع فيها الكثير من المثقفين العراقيين الثمن غاليا، أرواحهم. تعرفت أيامها أيضا على أحد القياديين الشوعيين، حكى لي أن أخاه دفن في حفرة طويلة مع العشرات من رفاقه من اليساريين وحتى بعض القوميين المتنورين، ثم كبت عليهم الجرافات، الخرسانة وهم أحياء، قبل أن يتم طمرهم نهائيا وتبليط الطريق الذي تحول إلى شارع يعبره اليوم الكثيرون، في بغداد، دون أن يدروا، أن تحت أرجلهم آلاف الصرخات المكتومة. لقد ذهب الجميع، والشاب الذي كان عمره عشرين سنة، تجاوز اليوم الستين، ولم تبق إلا ذاكرة الجراحات والرماد وثقل حقبة لم يخرج منها شيء إلا الهزائم الصعبة التي عطلت مع الزمن كل حواسنا الحية وأحاسيسنا تجاه ما يحيط بنا. كنت أعرف أن الهوى العام في جريدة الجمهورية كان يساريا، على الرغم من ضغوطات وزير الإعلام وقتها بهدف تدجينها نحو إيديولوجية دينية. ذهبت نحو رئيس التحرير وأخبرته عن رغبة الكاتب والجامعي العراقي إسماعيل حيدر، الذي يعيش في الجزائر كلاجئ سياسي، في التعاون مع جريدة الجمهورية. سألني عنه أكثر؟ قلت له إسماعيل حيدر. من أب عراقي كويتي من البصرة، وأم سورية. قال نتشرف باستقباله في الجريدة، فأجبته بسرعة: هو يفضل أن يظل بعيدا عن الأضواء، قال رئيس التحرير بمحبة: أتفهم ذلك. آتيني بمقالة نموذجية له، إذا كانت تناسب الجريدة، سننشرها له. ومن يومها بدأت الجريدة تنشر لكاتب عراقي كبير تجاوز العقد الخامس، اسمه إسماعيل حيدر. كتب الكثير من القصص، والكثير من الحكايات ومجموعة من المقالات التحليلية عن العالم العربي والإمبريالية وتأميم النفط والمثقف في قلب الثورات التحريرية. نشرت كلها في صحيفة الجمهورية. سأل عنه الكثير من صحفيي الجريدة. لا أحد استطاع أن يتعرف عليه. ولن يتعرفوا عليه إلا بإرادتي لأنه لا وجود له إلا في دماغي. كان إسماعيل حيدر واحد من أجمل اختراعاتي في الجريدة، وربما الوحيدة. نحتُّ اسمه من كاتبين كنت أحبهما: الكاتب الكويتي إسماعيل فهد إسماعيل الذي كنت قد سحرت به منذ قراءتي كانت السماء زرقاء، الحبل، الشياح، بيروت 67، الأقفاص واللغة المشتركة وغيرها وأنجزت بحث تخرج الليسانس حول لغة الرواية في كانت السماء زرقاء ، والكاتب السوري حيدر حيدر الذي كنت قد قرأت له قصص وروايات كثيرة، منها حكايا النوارس المهاجر التي صدرت في 1968، والومض وروايته الأولى الزمن الموحش وغيرها، قبل روايته الإشكالية وليمة لأعشاب البحر. الشخصان اللذان أعطياني إحساسا مميزا بالعلاقة الحية مع اللغة وتدفقها بين أيديهما. استهويت اللعبة ومارستها بحب ولذة. وظلت هي ضالتي في الكتابة. لا رواية بدون جهد لغوي أصيل. قبل سنوات قليلة، التقيت بصديق، كاتب عراقي اسمه إسماعيل حيدر، فقلت له كيفك يا أنا. ضحك. لم يفهمني جيدا. وعرفت أن شاعرا مصريا كبيرا كان يحمل نفس الاسم، ولد في السودان وتوفي في مدينة الفيوم. عاش في مصر، والسودان، وباريس. والده ألباني الأصل، كان ضابطاً بالجيش المصري في السودان. عاش بضواحي باريس فترة معلماً لأبناء الأميرة نازلي حليم. بعد عمله معلماً بفرنسا، عاد إلى العمل خبيراً بالمحاكم حتى وفاته. كم تفاجئنا الحياة. نمارس لعبة خطيرة هي أقرب إلى الأدب، وفجأة نكتشف أنها أقرب إلينا من الحقيقة نفسها. اليوم، بعد مرور كل هذا الزمن، أتوجه بحبي وعذري لرئيس تحرير صحيفة الجمهورية قبل نصف قرن، الذي رافقني في نفس اللعبة ظنا منه أنها حقيقة، وأبان عن تعاطف كبير مع المثقفين العراقيين الكبار، الذين اختاروا الجزائر أرض منفى لهم، بشكل لا يمكن وصفه. لهذا وحده، سيظل احترامي له كبيرا. صدّق لعبتي ولم يمنع مقالة واحدة من مقالات ضيف الجزائر، إسماعيل حيدر، بينما منعت لي الكثير من المقالات أحيانا بسبب طولها، وفي أحيان أخرى بسبب جرأتها. الجرأة نفسها كنت أغير مكانها وأمررها عبر حبيبي إسماعيل حيدر.